فصل: تفسير الآية رقم (41)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الألوسي المسمى بـ «روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏41‏]‏

‏{‏الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ‏(‏41‏)‏‏}‏

‏{‏الذين إِنْ مكناهم فِى الارض أَقَامُواْ الصلاة وَءاتُواْ *الذين إِنْ مكناهم فِى الارض أَقَامُواْ‏}‏ وصف للذين أخرجوا مقطوع أو غير مقطوع‏.‏ وجوز أن يكون بدلاً، والتمكين السلطنة ونفاذ الأمر، والمراد بالأرض جنسها، وقيل مكة، والمراد بالصلاة الصلاة المكتوبة وبالزكاة الزكاة المفروضة وبالمعروف التوحيد وبالمنكر الشرك على ما روى عن زيد بن أسلم‏.‏

ولعل الأولى في الأخيرين التعميم، والوصف بما ذكر كما روى عن عثمان رضي الله تعالى عنه ثناء قبل بلاء يعني أن الله تعالى أثنى عليهم قبل أن يحدثوا من الخير ما أحدثوا قالوا‏:‏ وفيه دليل على صحة أمر الخلفاء الراشدين رضي الله تعالى عنهم أجمعين وذلك على مافي «الكشف» لأن الآية مخصوصة بالمهاجرين لأنهم المخرجون بغير حق والممكنون في الأرض منهم الخلفاء دون غيرهم فلو لم تثبت الأوصاف الباقية لزم الخلف في المقال تعالى الله سبحانه عنه لدلالته على أن كل ممكن منهم يلزمه التوالي لعموم اللفظ، ولما كان التمكين واقعاً تم الاستدلال دون نظر إلى استدعاء الشرطية الوقوع كالكلام المقرون بلعل وعسى من العظماء فإن لزوم التالي مقتضى اللفظ لا محالة ولما وقع المقدم لزم وقوعه أيضاً، وفي ثبوت التالي ثبوت حقية الخلافة البتة وهي واردة على صيغة الجمع المنافية للتخصيص بعلى وحده رضي الله تعالى عنه، وعن الحسن‏.‏ وأبي العالية هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم والأولى على هذا أن يجعل الموصول بدلاً من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَن يَنصُرُهُ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 40‏]‏ كما أعربه الزجاج، وكذا يقال على ما روى عن ابن عباس أنهم المهاجرون والأنصار والتابعون، وعلى ما روى عن أبي نجيح أنهم الولاة‏.‏

وأنت تعلم أن المقام لا يقتضي إلا الأول ‏{‏وَللَّهِ‏}‏ خاصة ‏{‏عاقبة الامور‏}‏ فإن مرجعها إلى حكمه تعالى وتقديره فقط، وفيه تأكيد للوعد بإعلاء كلمته وإظهار أوليائه

تفسير الآيات رقم ‏[‏42 - 44‏]‏

‏{‏وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ ‏(‏42‏)‏ وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ ‏(‏43‏)‏ وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ ‏(‏44‏)‏‏}‏

‏{‏وأصحاب مَدْيَنَ‏}‏ تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وصيغة المضارع في الشرط مع تحقق التكذيب لما أن المقصود تسليته عليه الصلاة والسلام عما يترتب على التكذيب من الحزن المتوقع أو للإشارة إلى أنه مما لا ينبغي تحققه وإلحاق ‏{‏كَذَّبَ‏}‏ تاء التأنيث لأن الفاعل وهو ‏{‏قَوْمٌ‏}‏ اسم جمع يحوز تذكيره وتأنيثه ولا حاجة لتأويله بالأمة أو القبيلة كما فعل أبو حيان ومن تبعه، وفي اختيار التأنيث حط لقدر المكذبين ومفعول كذب محذوف لكمال ظهور المراد‏.‏

وجوز أن يكون الفعل منزلاً منزلة اللازم أي فعلت التكذيب واستغنى في عاد وثمود عن ذكر القوم لاشتهارهم بهذا الاسم الأخصر والأصل في التعبير العلم فلذا لم يقل قوم صالح وقوم هود ولا علم لغير هؤلاء، ولم يقل وقوم شعيب قيل لأن قومه المكذبين له عليه السلام هم هؤلاء دون أهل الأيكة لأنهم وإن أرسل عليه السلام إليهم فكذبوه أجنبيون، وتكذيب هؤلاء أيضاً أسبق وأشد، والتخصيص لأن التسلية للنبي عليه الصلاة والسلام عن تكذيب قومه أي وإن يكذبك قومك فاعلم أنك لست بأوحدى في ذلك فقد كذبت قبل تكذيب قومك إياك قوم نوح الخ ‏{‏وَكُذّبَ موسى‏}‏ المكذب له عليه السلام هم القبط وليسوا قومه بل قومه عليه السلام بنو إسرائيل ولم يكذبوه بإسرهم ولم يكذبوه بأسرهم ومن كذبه منهم تاب إلا اليسير وتكذيب اليسير من القوم كلا تكذيب ألا ترى أن تصديق اليسير من المذكورين قبل عد كلا تصديق ولهذا لم يقل وقوم موسى كما قيل‏:‏ ‏{‏قَوْمُ نُوحٍ وَقَوْمِ إبراهيم‏}‏ وأما أنه لم يقل والقبط بل أعيد الفعل مبنياً للمفعول فللإيذان بأن تكذيبهم له عليه الصلاة والسلام في غاية الشناعة لكون آياته في كمال الوضوح ‏{‏فَأمْلَيْتُ للكافرين‏}‏ أي أمهلتهم حتى انصرمت حبال آجالهم‏.‏ والفاء لترتيب إمهال كل فريق من فرق المكذبين على تكذيب ذلك الفريق لا لترتيب إمهال الكل على تكذيب الكل‏.‏ ووضع الظاهر موضع المضمر العائد على المكذبين لذمهم بالكفر والتصريح بمكذبي موسى عليه السلام حيث لم يذكروا فيما قبل تصريحاً ‏{‏ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ‏}‏ أي أخذت كل فريق من فريق المكذبين بعد انقضاء مدة إملائه وإمهاله‏.‏ والأخذ كناية عن الإهلاك ‏{‏فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ‏}‏ أي إنكاري عليهم بتغيير ما هم عليه من الحياة والنعمة وعمارة البلاد وتبديله لضده فهو مصدر من نكرت عليه إذا فعلت فعلاً يردعه بمعنى الإنكار كالنذير بمعنى الإنذار‏.‏ وياء الضمير المضاف إليها محذوفة للفاصلة وأثبتها بعض القراء، والاستفهام للتعجب كأنه قيل فما أشد ما كان إنكاري عليهم، وفي الجملة إرهاب لقريش

‏[‏بم وقوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏45‏]‏

‏{‏فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ ‏(‏45‏)‏‏}‏

‏{‏فَكَأَيّن مّن قَرْيَةٍ‏}‏ منصوب بمضمر يفسره قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أهلكناها‏}‏ أي فأهلكنا كثيراً من القرى أهلكناها، والجملة بدل من قوله سبحانه ‏{‏فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 44‏]‏ أو مرفوع على الابتداء وجملة ‏{‏أهلكناها‏}‏ خبره أي فكثير من القرى أهلكناها، واختار هذا أبو حيان قال‏:‏ الأجود في إعراب ‏{‏كأين‏}‏ أن تكون مبتدأ وكونها منصوبة بفعل مضمر قليل‏.‏

وقرأ أبو عمرو‏.‏ وجماعة ‏{‏أهلكتها‏}‏ بتاء المتكلم على وفق ‏{‏موسى فَأمْلَيْتُ للكافرين ثم أخذتهم‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 44‏]‏ ونسبة الإهلاك إلى القرى مجازية والمراد إهلاك أهلها، ويجوز أن يكون الكلام بتقدير مضاف، وقيل‏:‏ الإهلاك استعارة لعدم الانتفاع بها بإهلاك أهلها، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَهِىَ ظالمة‏}‏ جملة حالية من مفعول أهلكنا، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَهِىَ خَاوِيَةٌ‏}‏ عطف على ‏{‏أهلكناها‏}‏ فلا محل له من الإعراب أو محله الرفع كالمعطوف عليه، ويجوز عطفه على جملة ‏{‏كأين‏}‏ الخ الاسمية واختاره بعضهم لقضية التشاكل، والفاء غير مانعة بناء على ترتب الخواء على الإهلاك لأنه على نحو زيد أبوك فهو عطوف عليك، وجوز عطفه على الجملة الحالية، واعترض بأن خواءها ليس في حال إهلاك أهلها بل بعده، وأجيب بأنها حال مقدرة ويصح عطفها على الحال المقارنة أو يقال هي حال مقارنة أيضاً بأن يكون إهلاك الأهل بخوائها عليهم، ولا يخفى أن كلا الجوابين خلاف الظاهر، والخوار إما بمعنى السقوط من خوى النجم إذا سقط، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏خَاوِيَةٌ على عُرُوشِهَا‏}‏ متعلق به، والمراد بالعروش السقوف، والمعنى فهي ساقطة حيطانها على سقوفها بأن تعطل بنيانها فخرت سقوفها ثم تهدمت حيطانها فسقطت فوق السقوف، وإسناد السقوط على العروش إليها لتنزيل الحيطان منزلة كل البنيان لكونها عمدة فيه، وإما بمعنى الخلو من خوت الدار تخوى خواء إذا خلت من أهلها، ويقال‏:‏ خوى البطن يخوي خوى إذا خلا من الطعام، وجعل الراغب أصل معنى الخواء هذا وجعل خوى النجم من ذلك فقال‏:‏ يقال خوى النجم وأخوى إذا لم يكن منه عند سقوطه مطر تشبيهاً بذلك فقوله تعالى‏:‏ ‏{‏على عُرُوشِهَا‏}‏ إما متعلق به أو متعلق بمحذوف وقع حالاً، و‏{‏على‏}‏ بمعنى مع أي فهي خالية مع بقاء عروشها وسلامتها، ويجوز على تفسير الخواء بالخلو أن يكون ‏{‏على عُرُوشِهَا‏}‏ خبراً بعد خبر أي فهي خالية وهي على عروشها أي قائمة مشرفة على عروشها على أن السقوف سقطت إلى الأرض وبقيت الحيطان قائمة وهي مشرفة على السقوف الساقطة، وإسناد الإشراف إلى الكل مع كونه حال الحيطان لما مر آنفاً ‏{‏وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ‏}‏ عطف على ‏{‏قَرْيَةٌ‏}‏ والبئر من بأرت أي حفرت وهي مؤنثة على وزن فعل بمعنى مفعول وقد تذكر على معنى القليب وتجمع على أبار وآبار وأبؤر وأأبر وبيار، وتعطيل الشيء إبطال منافعه أي وكم بئر عامرة في البوادي تركت لا يسقى منها لهلاك أهلها‏.‏

وقرأ الجحدري‏.‏ والحسن‏.‏ وجماعة ‏{‏مُّعَطَّلَةٍ‏}‏ بها لتخفيف من أعطله بمعنى عطله‏.‏

‏{‏وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ‏}‏ عطف على ما تقدم أيضاً أي وكم قصر مرفوع البنيان أو مبنى بالشيد بالكسر أي الجص أخليناه عن ساكنيه كما يشعر به السياق ووصف البئر بمعطلة قيل، وهذا يؤيد كون معنى ‏{‏خَاوِيَةٌ على عُرُوشِهَا‏}‏ خالية مع بقاء عروشها، وفي «البحر» ينبغي أن يكون ‏{‏مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ‏}‏ من حيث عطفهما على ‏{‏قَرْيَةٌ‏}‏ داخلين معها في حيز الإهلاك مخبراً به عنهما بضرب من التجوز أي وكم بئر معطلة وقصر مشيد أهلكنا أهلهما‏.‏

وزعم بعضهم عطفهما على ‏{‏عُرُوشِهَا‏}‏ وليس بشيء، وظاهر التنكير فيهما عدم إرادة معين منهما، وعن ابن عباس أن البئر كانت لأهل عدن من اليمن وهي الرس، وعن كعب الأحبار أن القصر بناه عاد الثاني‏.‏

وعن الضحاك‏.‏ وغيره أن القصر على قلة جبل بحضرمون والبئر بسفحه وأن صالحاً عليه السلام نزل عليها مع أربعة آلاف نفر ممن آمن به ونجاهم الله تعالى من العذاب، وسميت حضرموت بفتح الراء والميم ويضمان ويبني ويضاف لأن صالحاً عليه السلام حين حضرها مات، وعند البئر بلدة اسمها حاضورا بناها قوم صالح وأمروا عليها جلهس بن جلاس وأقاموا بها زماناً ثم كفروا وعبدوا صنماً وأرسل الله تعالى إليهم حنظلة بن صفوان نبياً فقتلوه في السوق فأهلكهم الله تعالى عن آخرهم وعطل سبحانه بئرهم وقصرهم‏.‏

وجوز أن يكون إرادة ذلك بطريق التعريض وفيه بعد‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏46‏]‏

‏{‏أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آَذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ‏(‏46‏)‏‏}‏

‏{‏أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِى الارض‏}‏ حث لهم على السفر للنظر والاعتبار بمصارع الهالكين هذا إن كانوا لم يسافروا وإن كانوا سافروا فهو حث على النظر والاعتبار، وذكر المسير لتوقفه عليه، وجوز أن يكون الاستفهام للإنكار أو التقرير، وأياً ما كان فالعطف على مقدر يقتضيه المقام، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَتَكُونَ لَهُمْ‏}‏ منصوب في جواب الاستفهام عند ابن عطية‏.‏ وفي جواب التقرير عند الحوفي وفي جواب النفي عند بعض، ومذهب البصريين أن النصب بإضمار أن وينسبك منها ومن الفعل مصدر يعطف على مصدر متوهم‏.‏ ومذهب الكوفيين أنه منصوب على الصرف إذ معنى الكلام الخبر صرفوه عن الجزم على العطف على ‏{‏يَسِيرُواْ‏}‏ وردوه إلى أخي الجزم وهو النصب وهو كما ترى‏.‏ ومذهب الجرمي أن النصب بالفاء نفسها‏.‏

وقرأ مبشر بن عبيد ‏{‏فَيَكُونُ‏}‏ بالياء التحيتية ‏{‏قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا‏}‏ أي يعلمون بها ما يجب أن يعلم من التوحيد فمفعول ‏{‏يَعْقِلُونَ‏}‏ محذوف لدلالة المقام عليه، وكذا يقال في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَوْ ءاذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا‏}‏ أي يسمعون بها ما يجب أن يسمع من الوحي أو من أخبار الأمم المهلكة ممن يجاورهم من الناس فإنهم أعرف منهم بحالهم ‏{‏فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الابصار ولكن تعمى القلوب التى فِى الصدور‏}‏ ضمير ‏{‏فَإِنَّهَا‏}‏ للقصة فهو مفسر بالجملة بعده، ويجوز في مثله التذكير باعتبار الشان، وعلى ذلك قراءة عبد الله ‏{‏فَإِنَّهُ‏}‏ وحسن التأنيث هنا وقوع ما فيه تأنيث بعده، وقيل‏:‏ يجوز أن يكون ضميراً مبهماً مفسراً بالإبصار، وكان الأصل فإنها الابصار لا تعمى على أن جملة ‏{‏لاَ تَعْمَى‏}‏ من الفعل والفاعل المستتر خبر بعد خبر فلما ترك الخبر الأول أقيم الظاهر مقام الضمير لعدم ما يرجع إليه ظاهراً فصار فاعلاً مفسراً للضمير‏.‏ واعترضه أبو حيان بأنه لا يجوز لأن الضمير المفسر بمفرد بعده محصور في أمور وهي باب رب وباب نعم وبئس وباب الأعمال وباب البدل وباب المبتدا والخبر وما هنا ليس منها‏.‏ ورد بأنه من باب المبتدا والخبر نحو ‏{‏إِنْ هِىَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدنيا‏}‏ ‏[‏الانعام‏:‏ 29‏]‏ ولا يضره دخول الناسخ، وفيه نظر، والمعنى أنه لا يعتد بعمى الأبصار وإنما يعتد بعمى القلوب فكأن عمى الأبصار ليس بعمى بالإضافة إلى عمى القلوب، فالكلام تذييل لتهويل ما بهم من عدم فقه القلب وأنه العمى الذي لا عمى بعده بل لا عمى إلا هو أو المعنى إن أبصارهم صحيحة سالمة لا عمى بها وإنما العمى بقلوبهم فكأنه قيل‏:‏ أفلم يسيروا فتكون لهم قلوب ذات بصائر فإن الآفة ببصائر قلوبهم لا بأبصار عيونهم وهي الآفة التي كل آفة دونها كأنه يحثهم على إزالة المرض وينعي عليهم تقاعدهم عنها، ووصف القلوب بالتي في الصدور على ما قال الزجاج للتأكيد كما في قوله تعالى‏:‏

‏{‏يَقُولُونَ بأفواههم‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 167‏]‏ وقولك‏:‏ نظرت بعيني‏.‏

وقال الزمخشري‏:‏ قد تعورف واعتقد أن العمى على الحقيقة مكانه البصر وهو أن تصاب الحدقة بما يطمس نورها واستعماله في القلب استعارة ومثل فلما أريد إثبات ما هو خلاف المعتقد من نسبة العمى إلى القلوب حقيقة ونفيه عن الأبصار احتاج هذا التصوير إلى زيادة تعيين وفضل تعريف ليتقرر أن مكان العمى هو القلوب لا الأبصار كما تقول‏:‏ ليس المضاء للسيف ولكنه للسانك الذي بين فكيك وهو في حكم قولك‏:‏ ما نفيت المضاء عن السيف وأثبته للسانك فلتة ولا سهواً مني ولكن تعمدت به إياه بعينه تعمداً‏.‏

وهذه الآية على ما قيل نزلت في ابن أم مكتوم حين سمع قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَن كَانَ فِى هذه أعمى فَهُوَ فِى الاخرة أعمى‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 72‏]‏ فقال‏:‏ يا رسول الله أنا في الدنيا أعمى أفأكون في الآخرة أعمى‏؟‏ وربما يرجح بهذه الرواية إن صحت المعنى الأول إذ حصول الجواب بالآية عليه ظاهر جداً فكأنه قيل له‏:‏ أنت لا تدخل تحت عموم ‏{‏وَمَن كَانَ‏}‏ الخ لأن عمى الأبصار في الدنيا ليس بعمى في الحقيقة في جنب عمى القلوب والذي يدخل تحت عموم ذلك من اتصف بعمى القلب، وهذا يكفي في الجواب سواء كان معنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَن كَانَ فِى هذه أعمى فَهُوَ فِى الاخرة أعمى‏}‏ ومن كان في الدنيا أعمى القلب فهو في الآخرة كذلك أو ومن كان في الدنيا أعمى للقلب فهو في الآخرة أعمى البصر لأنه فيها تبلى السرائر فيظهر عمى القلب بصورة عمى البصر، نعم في صحة الرواية نظر‏.‏

وفي «الدر المنثور» أخرج ابن أبي حاتم عن قتادة أنه قال في هذه الآية‏:‏ ذكر لنا أنها نزلت في عبد الله بن زائدة يعني ابن أم مكتوم، ولا يخفى حكم الخبر إذا روى هكذا‏.‏ واستدل بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَفَلَمْ يَسِيرُواْ‏}‏ الخ على استحباب السياحة في الأرض وتطلب الآثار‏.‏

وقد أخرج ابن أبي حاتم في كتاب التفكر عن مالك بن دينار قال‏:‏ أوحى الله تعالى إلى موسى عليه السلام أن التخذ نعلين من حديد وعصا ثم سح في الأرض فاطلب الآثار والعبر حتى تحفى النعلان وتنكسر العصا، وبقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَتَكُونُ‏}‏ الخ على أن محل العقل القلب لا الرأس، قاله الجلال السيوطي في أحكام القرآن العظيم‏.‏

وقال الإمام الرازي‏:‏ في الآية دلالة على أن العقل هو العلم وعلى أن محله هو القلب، وأنت تعلم أن كون العقل هو العلم هو اختيار أبي إسحق الاسفرائيني واستدل عليه بأنه يقال لمن عقل شيئاً علمه ولمن علم شيئاً عقله، وعلى تقدير التغاير لا يقال ذلك وهو غير سديد لأنه إن أريد بالعلم كل علم يلزم منه أن لا يكون عاقلاً من فاته بعض العلوم مع كونه محصلاً لما عداه وإن أريد بعض العلوم فالتعريف غير حاصل لعدم التمييز وما ذكر من الاستدلال غير صحيح لجواز أن يكون العلم مغايراً للعقل وهما متلازمان‏.‏

وقال الأشعري‏:‏ لا فرق بين العقل والعلم إلا في العموم والخصوص والعلم أعم من العقل فالعقل إذاً علم مخصوص فقيل‏:‏ هو العلم الصارف عن القبيح الداعي إلى الحسن وهو قول الجبائي، وقيل‏:‏ هو العلم بخير الخيرين وشر الشرين وهو قول لبعض المعتزلة أيضاً ولهم أقوال أخر، والذي اختاره القاضي أبو بكر أنه بعض العلوم الضرورية كالعلم باستحالة اجتماع الضدين وأنه لا واسطة بين النفي والإثبات وأن الموجود لا يخرج عن أن يكون قديماً أو حادثاً ونحو ذلك‏.‏ واحتج إمام الحرمين على صحة ذلك وإبطال ما عداه بما ذكره الآمدي في ابكار الأفكار بما له وعليه‏.‏ واختار المحاسبي عليه الرحمة أنه غزيرة يتوصل بها إلى المعرفة، ورد بأنه إن أراد بالغريزة العلم لزمه ما لزم القائل بأنه العلم وإن أراد بها غير العلم فقد لا يسلم وجود أمر وراء العلم يتوصل به إلى المعرفة‏.‏

وقال صاحب القاموس بعد نقل عدة أقوال في العقل‏:‏ والحق أنه نور روحاني به تدرك النفس العلوم الضرورية والنظرية، ولعنا نحقق ذلك في موضع آخر إن شاء الله تعالى، ثم ان في محلية القلب للعلم خلافاً بين العقلاء فالمشهور عن الفلاسفة أن محل العلم المتعلق بالكليات والجزئيات المجردة النفس الناطقة ومحل العلم المتعلق بالجزئيات المادية قوى جسمانية قائمة بأجزاء خاصة من البدن وهي منقسمة إلى خمس ظاهرة وخمس باطنة وتسمى الأولى الحواس الظاهرة والثانية الحواس الباطنة وأمر كل مشهور‏.‏

وزعم بعض متفلسفة المتأخرين أن المدرك للكليات والجزئيات إنما هو النفس والقوى مطلقاً غير مدركة بل آلة في إدراك النفس وذهب إليه بعض منا‏.‏ وفي أباكر الأفكار بعد نقل قولي الفلاسفة وأما أصحابنا فالبنية المخصوصة غير مشترطة عندهم بل كل جزء من أجزاء بدن الإنسان إذا قام به إدراك وعلم فهو مدرك عالم، وكون ذلك هما يقوم بالقلب أو غيره مما لا يجب عقلا ولا يمتنع لكن دل الشرع على القيام بالقلب لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ فِى ذلك لذكرى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 37‏]‏ وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا‏}‏ وقوله عز وجل ‏{‏أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القرءان أَمْ على قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ 24‏]‏ انتهى، ولا يخفى أن الاستدلال بما ذكر على محلية القلب للعلم لا يخلو عن شيء، نعم لا ينكر دلالة الآيات على أن للقلب الإنساني لما أودع فيه مدخلاً تاماً في الإدراك، والوجدان يشهد بمدخلية ما أودع في الدماغ في ذلك أيضاً، ومن هنا لا أرى للقول بأن لأحدهما مدخلاً دون الآخر وجهاً، وكون الإنسان قد يضرب على رأسه فيذهب عقله لا يدل على أن لما أودع في الدماغ لا غير مدخلاً في العلم كما لا يخفى على من له قلب سليم وذهن مستقيم فتأمل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏47‏]‏

‏{‏وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ ‏(‏47‏)‏‏}‏

‏{‏وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالعذاب‏}‏ الضمير لقريش كان صلى الله عليه وسلم يحذرهم عذاب الله تعالى ويوعدهم ميجئه وهم ينكرون ذلك أشد الإنكار ويطلبون مجيئه استهزاء وتعجيزاً له صلى الله عليه وسلم فانكر عليهم ذلك، فالجملة خبر لفظاً واستفهام وإنشاء معنى، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَن يُخْلِفَ الله وَعْدَهُ‏}‏ جملة حالية جيء بها لبيان بطلان إنكارهم العذاب في ضمن استعجالهم به كأنه قيل‏:‏ كيف تنكرون مجيء العذاب الموعود والحال أنه تعالى لا يخلف وعده، وقد سبق الوعد فلا بد من مجيئة أو اعتراضية لما ذكر أيضاً، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مّمَّا تَعُدُّونَ‏}‏ جملة مستأنفة إن كانت الأولى حالية ومعطوفة عليها إن كانت اعتراضية سيقت لتحقيق إنكار الاستعجال وبيان خطئهم فيه ببيان كمال سعة ساحة حلمه تعالى وءظهار غاية ضيق عطنهم المستتبع لكون المدة القصيرة عنده تعالى مدداً طوالاً عندهم حسبما ينطق به قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَنَرَاهُ قَرِيباً‏}‏ ‏[‏المعارج‏:‏ 6، 7‏]‏ ولذا يرون مجيئه بعيداً ويتخذونه ذريعة إلى إنكاره ويجترؤون على الاستعجال به ولا يدرون أن معيار تقدير الأمور كلها وقوعاً وأخباراً ما عنده من المقدار‏.‏ وقراءة الأخوين‏.‏ وابن كثير ‏{‏يَعْدُونَ‏}‏ على صيغة الغيبة أي يعده المستعجلون أوفق لهذا المعنى، وقد جعل الخطاب في قراءة الجمهور لهم أيضاً بطريق الالتفات لكن الظاهر أنه للرسول صلى الله عليه وسلم ومن معه من المؤمنين، وقيل‏:‏ المراد بوعده تعالى ما جعل لهلاك كل أمة من موعد معين وأجل مسمى كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَسْتَعْجِلُونَكَ بالعذاب وَلَوْلاَ أَجَلٌ مُّسَمًّى لَّجَاءهُمُ العذاب‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 53‏]‏ فتكون الجملة الأولى مطلقاً مبينة لبطلان الاستعجال به ببيان استحالة مجيئه قبل وقته الموعود، والجملة الأخيرة بيان لبطلانه ببيان ابتنائه على استطالة ما هو قصير عنده تعالى على الوجه المار بيانه، وحينئذ لا يكون في النظم الكريم تعرض لانكارهم مجيئه الذي دسوه تحت الاستعجال، ويكتفي في رد ذلك ببيان عاقبة من قبلهم من أمثالهم، وأياً ما كان فالعذاب المستعجل به العذاب الدنيوي وهو الذي يقتضيه السباق والسياق‏.‏ وقيل‏:‏ المراد بالعذاب العذاب الأخروي والمراد باليوم المذكور يوم ذلك العذاب واستطالته لشدته فإن أيام الترحة مستطالة وأيام الفرحة مستقصرة كما قيل‏:‏

تمتع بايام السرور فإنها *** قصار وأيام الهموم طوال

وعلى ذلك جاء قوله‏:‏

ليلى وليلى نفي نومي اختلافهما *** بالطول والطول يا طوبى لو اعتدلا

يجود بالطول ليلى كلما بخلت *** بالطول ليلى وأن جادت به بخلا

فيكون قد رد عليهم إنكار مجيء العذاب بالجملة الأولى وأنكر عليهم الاستعجال به وإن كان ذلك على وجه الاستهزاء بالجملة الثانية فكأنه قيل‏:‏ كيف تنكرون مجيئه وقد سبق به الوعد ولن يخلف الله تعالى وعده فلا بد من مجيئه حتماً وكيف تستعجلون به واليوم الواحد من أيامه لشدته يرى كألف سنة مما تعدون، ويقال نحو ذلك على القول بأن المراد باليوم أحد أيام الآخرة فإنها اعتبرت طوالاً أو أنها تستطال لشدة عذابها‏.‏

واعترض بأن ذلك مما لا يساعده السباق ولا السياق، وقال الفراء‏:‏ تضمنت الآية عذاب الدنيا والآخرة وأريد بالعذاب المستعجل به عذاب الدنيا أي لن يخلف الله تعالى وعده في إنزال العذاب بكم في الدنيا وإن يوماً من أيام عذابكم في الآخرة كألف سنة من سني الدنيا، ولا يخلو عن حسن إلا أن فيه بعدا كما لا يخفى‏.‏

واستدل المعتزلة بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَنْ يُخْلِفَ الله وَعْدَهُ‏}‏ على أن الله سبحانه لا يغفر للعصاة لأن الوعد فيه بمعنى الوعيد وقد أخبر سبحانه أنه لا يخلفه والمغفرة تستلزم الخلف المستلزم للكذب المحال عليه تعالى‏.‏

وأجاب أهل السنة بأن وعيدات سائر العصاة إنشاءات أو اخبارات عن استحقاقهم ما أوعدوا به لا عن إيقاعه أو هي إخبارات عن إيقاعه مشروطة بعدم العفو وترك التصريح بالشرط بزيادة الترعيب ولا كذلك وعيدات الكفار فإنها محض اخبارات عن الإيقاع غير مشروطة بشرط أصلاً كمواعيد المؤمنين، والداعي للتفرقة الجمع بين الآيات، وأنت تعلم أن ظاهر هذا أن وعيدات الكفار بالعذاب الدنيوي كوعيداتهم بالعذاب الأخروي لا يتطرقها عدم الوقوع فلا يجوز العفو عن عذابهم مطلقاً متى وعد به، وعندي في التسوية بين الأمرين تردد، ويعلم من ذلك حال هذا الجواب على تقدير حمل العذاب في الآية على العذاب الدنيوي الأوفق للمقام والوعد على الوعد به‏.‏ وأجاب بعضهم هنا بأن المراد بالوعد وعده تعالى بالنظرة والامهال وهو مقابل للوعيد في نظر الممهل ولا خلاف في أن الله تعالى لا يخلف الوعد المقابل للوعيد وأن ما يؤدي به خبر محض لا شرط فيه؛ وقيل‏:‏ المراد به وعده تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بإنزال العذاب المستعجل به عليهم وذلك مقابل للوعيد من حيث أن فيه خيراً له عليه الصلاة والسلام، ولا مانع من أن يكون شيء واحد خيراً وشراً بالنسبة إلى شخصين فقد قيل‏:‏

مصائب قوم عند قوم فوائد *** وحينئذ لا دليل للمعتزلة في الآية على دعواهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏48‏]‏

‏{‏وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ ‏(‏48‏)‏‏}‏

‏{‏وَكَأَيّن مّن قَرْيَةٍ‏}‏ أي كم من سكنة قرية ‏{‏أَمْلَيْتُ لَهَا‏}‏ كما أمليت لهؤلاء حتى أنكروا مجيء ما وعد من العذاب واستعجلوا به استهزاء وتعجيزاً لرسلهم عليهم السلام كما فعل هؤلاء، والجملة عطف على ما تقدمها جيء بها لتحقيق الرد كما تقدم فلذا جيء بالواو، وجيء في نظيرتها السابقة بالفاء قيل‏:‏ لأنها أبدلت من جملة مقرونة بها، وفي إعادة الفاء تحقيق للبدلية، وقيل‏:‏ جيء بالفاء هناك لأن الجملة مترتبة على ما قبلها ولم يجيء بها هنا لعدم الترتب، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَهِىَ ظالمة‏}‏ جملة حالية مفيدة لكمال حلمه تعالى ومشعرة بطريق التعريض بظلم المستعجلين أي أمليت لها والحال أنها ظالمة مستوجبة لتعجيل العقوبة كدأب هؤلاء ‏{‏ثُمَّ أَخَذْتُهَا‏}‏ بالعذاب والنكال بعد طول الاملاء والامهال ‏{‏وَإِلَىَّ المصير‏}‏ أي إلى حكمى مرجع جميع الناس أو جميع أهل القرية لا إلى أحد غيري لا استقلالاً ولا شركة فأفعل بهم ما أفعل مما يليق باعمالهم، والجملة اعتراض تذييلي مقرر لما قبله مصرح بما أفاده ذلك بطريق التعريض من أن مآل أمر المستعجلين أيضاً ما ذكر من الأخذ الوبيل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏49‏]‏

‏{‏قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ ‏(‏49‏)‏‏}‏

‏{‏قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنَّمَا أنَا لَكُمْ نَذيرٌ مُبينٌذ ظاهر السياق يقتضي أن المراد بالناس المشركون فإن الحديث مسوق لهم فكأنه قيل‏:‏ قل يا أيها المشركون المستعجلون بالعذاب إنما أنا منذر لكم إنذاراً بينا بما أوحى إلي من أنباء الأمم المهلكة من غير أن يكون لي دخل في اتيان ما تستعجلون من العذاب الموعود حتى تستعجلوني به فوجه الاقتصار على الإنذار ظاهر، وأما وجه ذكر المؤمنين وثوابهم‏}‏

‏[‏بم في قوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏50‏]‏

‏{‏فَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ‏(‏50‏)‏‏}‏

‏{‏فالذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ‏}‏ فالزيادة في إغاظة المشركين فهو بحسب المآل إنذار، ويجوز أن يقال‏:‏ إن قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فالذين ءامَنُواْ‏}‏ الآية تفصيل لمن نجع فيه الإنذار من الناس المشركين ومن بقي منهم على كفره غير ناجه فيه ذلك كأنه قيل‏:‏ أنذر يا محمد هؤلاء الكفرة المستعجلين بالعذاب وبالغ فيه فمن آمن ورجع عما هو عليه فله كذا ومن داوم على كفره واستمر على ما هو عليه فله كذا، واختاره الطيبي وهو كما في الكشف حسن وعليه لا يكون التقسيم داخلاً في المقول بخلاف الوجه الأول‏.‏

وقال بعض المحققين‏:‏ الناس عام للمؤمن والكافر والمنذر به قيام الساعة، وإنما كان صلى الله عليه وسلم نذيراً مبيناً لأن بعثه عليه الصلاة والسلام من اشراطها فاجتمع فيه الإنذار قالا وحالا بقوله‏:‏ ‏{‏أَنَاْ لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 49‏]‏ كقوله صلى الله عليه وسلم الثابت في الصحيحين «أنا النذير العريان» وقد دل على ذلك تعقيب الخطاب بالإنذار تفصيل حال الفريقين عند قيامها اه‏.‏

ولا مانع منه لولا ظاهر السياق، وكون المؤمنين لا ينذرون لا سيما وفيهم الصالح والطالح مما لا وجه له، ومن منع من العموم لذلك قال‏:‏ التقدير عليه بشير ونذير ونقل هذا عن الكرماني؛ ثم المغفرة تحتمل أن تكون لما ندر من الذين آمنوا من الذنوب وذلك لا ينافي وصفهم بعمل الصالحات، وتحتمل أن تكون لما سلف منهم قبل الإيمان والرجوع عما كانوا عليه، والمراد بالرزق الكريم هنا الجنة كما يشعر به وقوعه بعد المغفرة وكذلك في جميع القرآن على ما أخرجه ابن أبي حاتم عن محمد بن كعب القرظي، ومعنى الكريم في صفات غير الآدميين الفائق‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏51‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آَيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ‏(‏51‏)‏‏}‏

‏{‏والذين سَعَوْاْ فِى ءاياتنا‏}‏ أي بذلوا الجهد في إبطالها فسموها تارة سحراً وتارة شعراً وتارة أساطير الأولين‏.‏

وأصل السعي الإسراع في المشي ويطلق على الاصلاح والإفساد يقال‏:‏ سعى في أمر فلان إذا أصلحه أو أفسده بسعيه فيه ‏{‏معاجزين‏}‏ أي مسابقين للمؤمنين؛ والمراد بمسابقتهم مشاقتهم لهم ومعارضتهم فكلما طلبوا إظهار الحق طلب هؤلاء إبطاله، وأصله من عاجزه فاعجزه وعجزه إذا سابقه فسبقه فإن كلا من المتسابقين يريد إعجاز الآخر عن اللحاق‏.‏

وقرأ ابن كثير‏.‏ وأبو عمرو‏.‏ والجحدري‏.‏ وأبو السالم‏.‏ والزعفراني دمعجزين‏}‏ بالتشديد أي مثبطين الناس عن الإيمان‏.‏ وقال أبو علي الفارسي‏:‏ ناسبين المسلمين إلى العجز كما تقول‏:‏ فسقت فلاناً إذا نسبته إلى الفسق وهو المناسب لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏‏}‏ بالتشديد أي مثبطين الناس عن الإيمان‏.‏ وقال أبو علي الفارسي‏:‏ ناسبين المسلمين إلى العجز كما تقول‏:‏ فسقت فلاناً إذا نسبته إلى الفسق وهو المناسب لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَسْتَعْجِلُونَكَ بالعذاب‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 47‏]‏ وقرأ ابن الزبير ‏{‏معاجزين‏}‏ بسكون العين وتخفيف الزاي من أعجزك إذا سبقك ففاتك، قال صاحب اللوامح‏:‏ والمراد هنا ظانين أنهم يعجزوننا وذلك لظنهم أنهم لا يبعثون، وفسر ‏{‏معاجزين‏}‏ في قراءة الجمهور بمثل ذلك، والوصف على جميع القراءات حال من ضمير ‏{‏سَعَوْاْ‏}‏ وليست مقدرة على شيء منها كما يظهر للمتأمل ‏{‏أولئك‏}‏ الموصوفون بما ذكر ‏{‏أصحاب الجحيم‏}‏ أي ملازمو النار الشديدة التأجج، وقيل هو اسم دركة من دركات النار‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏52‏]‏

‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آَيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ‏(‏52‏)‏‏}‏

‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِىّ إِلاَّ إِذَا تمنى أَلْقَى الشيطان فِى أُمْنِيَّتِهِ‏}‏ «من» الأولى ابتدائية، والثانية مزيدة لاستغراق الجنس، والجملة المصدرة بإذا في موضع الحال عند أبي حيان، وقيل‏:‏ في موضع الصفة وأفرد الضمير بتأويل كل واحد أو بتقدير جملة مثل الجملة المذكورة كما قيل في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والله أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 62‏]‏ والظاهر أن «إذا» شرطية ونص على ذلك الحوفي لكن قالوا‏:‏ إن «إلا» في النفي إما أن يليها مضارع نحو ما زيد إلا يفعل وما رأيت زيداً إلا يفعل أو يليها ماض بشرط أن يتقدمه فعل كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا يَأْتِيهِم مّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُواْ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 11‏]‏ الخ أو «2» يكون الماضي مصحوباً بقد نحو ما زيد إلا قد قام، ويشكل عليه هذه الآية إذ لم يليها فيها مضارع ولا ماض بل جملة شرطية فإن صح ما قالوه احتيج إلى التأويل، وأول ذلك في البحر بأن «إذا» جردت للظرفية وقد فصل بها وبما أضيفت إليه بين إلا والفعل الماضي الذي هو «ألقى» وهو فصل جائز فتكون إلا قد وليها ماض في التقدير ووجد الشرط، وعطف «نبي» على «رسول» يدل على المغايرة بينهما وهو الشائع، ويدل على المغايرة أيضاً ما روي أنه صلى الله عليه وسلم سئل عن الأنبياء فقال‏:‏ مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً قيل‏:‏ فكن الرسل منهم‏؟‏ قال‏:‏ ثلثمائة وثلاثة عشر جماً غفيراً، وقد أخرج ذلك كما قال السيوطي أحمد‏.‏ وابن راهويه في مسنديهما من حديث أبي أمامة، وأخرجه ابن حبان في صحيحه‏.‏ والحاكم في مستدركه من حديث أبي ذر‏.‏

وزعم ابن الجوزي أنه موضوع وليس كذلك، نعم قيل في سنده ضعف جبر بالمتابعة؛ وجاء في رواية الرسل ثلثمائة وخمسة عشر، واختلفوا هنا في تفسير كل منهما فقيل‏:‏ الرسول ذكر حر بعثه الله تعالى بشرع جديد يدعو الناس إليه والنبي يعمه ومن بعثه لتقرير شرع سابق كانبياء بني إسرائيل الذين كانوا بين موسى وعيسى عليهم السلام، وقيل‏:‏ الرسول ذكر حر بعثه الله تعالى إلى قوم بشرع جديد بالنسبة إليهم وإن لم يكن جديداً في نفسه كاسماعيل عليه السلام إذ بعث لجرهم أولا والنبي يعمه ومن بعث بشرع غير جديد كذلك، وقيل‏:‏ الرسول ذكر حر له تبليغ في الجملة وإن كان بياناً وتفصيلاً لشرع سابق والنبي من أوحى إليه ولم يؤمر بتبليغ أصلا أو أعم منه ومن الرسول، وقيل‏:‏ الرسول من الأنبياء من جمع إلى المعجزة كتاباً منزلاً عليه والنبي غير الرسول من لا كتاب له، وقيل‏:‏ الرسول من له كتاب أو نسخ في الجملة والنبي من لا كتاب له ولا نسخ، وقيل الرسول من يأتيه الملك عليه السلام بالوحي يقظة والنبي يقال له ولمن يوحي إليه في المنام لا غير‏:‏ وهذا أغرب الأقوال ويقتضي أن بعض الأنبياء عليه السلام لم يوح إليه إلا مناماً وهو بعيد ومثله لا يقال بالرأي‏.‏

وأنت تعلم أن المشهور أن النبي في عرف الشرع أعم من الرسول فإنه من أوحى إليه سواء أمر بالتبليغ أم لا والرسول من أوحى إليه وأمر بالتبليغ ولا يصح إرادة ذلك لأنه إذا قوبل العام بالخاص يراد بالعام ما عدا الخاص فمتى أريد بالنبي ما عدا الرسول كان المراد به من لم يؤمر بالتبليغ وحيث تعلق به الإرسال صار مأموراً بالتبليغ فيكون رسولاً فلم يبق في الآية بعد تعلق الإرسال رسول ونبي مقابل له فلا بد لتحقيق المقابلة أن يراد بالرسول من بعث بشرع جديد وبالنبي من بعث لتقرير شرع من قبله أو يراد بالرسول من بعث بكتاب وبالنبي من بعث بغير كتاب أو يراد نحو ذلك مما يحصل به المقابلة مع تعلق الإرسال بهما، والتمني على ما قال أبو مسلم نهاية التقدير ومنه المنية وفاة الإنسان للوقت الذي قدره الله تعالى، والأمنية على ما قال الراغب الصورة الحاصلة في النفس من التمني، وقال غير واحد‏:‏ التمني القراءة وكذا الأمنية، وأنشدوا قول حسان في عثمان رضي الله تعالى عنهما‏.‏ تمني كتاب الله أول ليلة *** تمني داود الزبور على رسل

وفي البحر أن ذلك راجع إلى الأصل المنقول عن أبي مسلم فإن التالي يقدر الحروف ويتصورها فيذكرها شيئاً فشيئاً، والمراد بذلك هنا عند كثير القراءة، والآية مسوقة لتسلية النبي صلى الله عليه وسلم بأن السعي في إبطال الآيات أمر معهود وأنه لسعي مردود، والمعنى وما أرسلنا من قبلك رسولاً ولا نبياً إلا وحاله أنه إذا قرأ شيئاً من الآيات القى الشيطان الشبه والتخيلات فيما يقرؤه على أوليائه ليجادلوه بالباطل ويردوا ما جاء به كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِنَّ الشياطين لَيُوحُونَ إلى أَوْلِيَائِهِمْ ليجادلوكم‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 121‏]‏ وقال سبحانه ‏{‏وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلّ نِبِىّ عَدُوّاً شياطين الإنس والجن يُوحِى بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ زُخْرُفَ القول‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 112‏]‏ وهذا كقولهم عند سماع قراءة الرسول صلى الله عليه وسلم ‏{‏إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الميتة‏}‏ ‏[‏القرة‏:‏ 173‏]‏ إنه يحل ذبيح نفسه ويحرم ذبيح الله تعالى، وقولهم على ما في بعض الروايات عند سماع قراءته عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏{‏إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 98‏]‏ إن عيسى عبد من دون الله تعالى والملائكة عليهم السلام عبدوا من دون الله تعالى ‏{‏فَيَنسَخُ الله مَا يُلْقِى الشيطان‏}‏ أي فيبطل ما يلقيه من تلك الشبه ويذهب به بتوفيق النبي صلى الله عليه وسلم لرده أو بأنزال ما يرده ‏{‏ثُمَّ يُحْكِمُ الله ءاياته‏}‏ أي يأتي بها محكمة مثبتة لا تقبل الرد بوجه من الوجوه، و‏{‏ثُمَّ‏}‏ للتراخي الرتبي فإن الإحكام أعلا رتبة من النسخ، وصيغة المضارع في الفعلين للدلالة على الاستمرار التجددي، وإظهار الجلالة في موقع الاضمار لزيادة التقرير والإيذان بأن الألوهية من موجبات أحكام آياته تعالى الباهرة‏.‏

ومثل ذلك في زيادة التقرير إظهار «الشيطان» ‏{‏والله عَلِيمٌ‏}‏ مبالغ في العلم بكل ما من شأنه أن يعلم ومن جملته ما يصدر من الشيطان وأوليائه ‏{‏حَكِيمٌ‏}‏ في كل ما يفعل ومن جملته تمكين الشيطان من إلقاء الشبه وأوليائه من المجادلة بها وإبداؤه تعالى ردها، والإظهار ههنا لما ذكر أيضاً مع ما فيه من تأكيد استقلال الاعتراض التذييلي‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏53‏]‏

‏{‏لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ ‏(‏53‏)‏‏}‏

‏{‏لّيَجْعَلَ مَا يُلْقِى الشيطان‏}‏ أي الذي يلقيه‏.‏ وقيل‏:‏ القاءه ‏{‏فِتْنَةً‏}‏ أي عذاباً‏.‏ وفي البحر ابتلاء واختباراً ‏{‏لّلَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ‏}‏ أي شك ونفاق وهو المناسب لقوله تعالى في المنافقين ‏{‏فِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 10‏]‏ وتخصيص المرض بالقلب مؤيد له لعدم إظهار كفرهم بخلاف الكافر المجاهر ‏{‏والقاسية قُلُوبُهُمْ‏}‏ أي الكفار المجاهرين، وقيل‏:‏ المراد من الأولين عامة الكفار ومن الأخيرين خواصهم كأبي جهل‏.‏ والنضر‏.‏ وعتبة، وحمل الأولين على الكفار مطلقاً والأخيرين على المنافقين لأنهم أحق بوصف القسوة لعدم انجلاء صدأ قلوبهم بصيقل المخالطة للمؤمنين ليس بشيء‏.‏

‏{‏وَإِنَّ الظالمين‏}‏ أي الفريقين المذكورين فوضع الظاهر موضع ضميرهم تسجيلاً عليهم بالظلم مع ما وصفوا به من المرض والقسوة ‏{‏لَفِى شِقَاقٍ بَعِيدٍ‏}‏ أي عداوة شديدة ومخالفة تامة، ووصف الشقاق بالبعد مع أن الموصوف به حقيقة هو معروضة للمبالغة، والجملة اعتراض تذييلي مقرر لمضمون ما قبله، ولام ‏{‏لِيَجْعَلَ‏}‏ للتعليل وهو عند الحوفي متعلق بـ ‏{‏يحكم‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 52‏]‏ وعند ابن عطية بـ ‏{‏ينسخ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 52‏]‏ وعند غيرهما بـ ‏{‏ألقى‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 52‏]‏ لكن التعليل لما ينبىء عنه القاء الشيطان من تنكينه تعال إياه من ذلك في حق النبي صلى الله عليه وسلم خاصة لعطف

‏[‏بم قوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏54‏]‏

‏{‏وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ‏(‏54‏)‏‏}‏

‏{‏وَلِيَعْلَمَ الذين أُوتُواْ العلم أَنَّهُ الحق مِن رَّبّكَ‏}‏ وكون ضمير ‏{‏أَنَّهُ‏}‏ للقرآن، وقيل لا حاجة للتخصيص وضمير ‏{‏أَنَّهُ‏}‏ لتمكين الشيطان من الالقاء أي وليعلم العلماء أن ذلك التمكين هو الحق المتضمن للحكمة البالغة لأنه مما جرت به عادته تعالى في جنس الانس من لدن آدم عليه السلام، وضميراً ‏{‏بِهِ وَلَهُ‏}‏ في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَيُؤْمِنُواْ بِهِ‏}‏ أي يثبتوا على الإيمان أو يزدادوا إيماناً ‏{‏فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ‏}‏ بالانقياد والخشية للقرآن على التخصيص وللرب على التعميم، وجعلهما لتمكين الشيطان لا سيما الثاني مما لا وجه له‏.‏

ورجح ما قاله ابن عطية بأن أمر التعليل عليه أظهر أي فينسخ الله تعالى ما يلقيه الشيطان ويرده ليجعله بسبب الرد وظهور فساد التمسك به عذاباً للمنافقين والكافرين أي سبباً لعذابهم حيث استرسلوا معه مع ظهور فساده أو اختبار لهم هل يرجعون عنه وليعلم الذين أوتوا العلم أن القرآن هو الحق حيث بطل ما أورد من الشبه عليه ولم يبطل هو، وقد يقال مثل ذلك على ما ذهب إليه الحوفي، ولا يبعد أن يكون قوله تعالى ‏{‏لِيَجْعَلَ‏}‏ الخ متعلقاً بمحذوف أي فعل ذلك ليجعل الخ والإشارة إلى النسخ والأحكام ويجعل ‏{‏لِيَجْعَلَ‏}‏ علة النسخ ‏{‏وَلِيَعْلَمَ‏}‏ علة لفعل الاتيان بالآيات محكمة، ويجوز أن تكون الإشارة إلى التمكين المفهوم مما تقدم مع النسخ والأحكام ويجعل ‏{‏لِيَجْعَلَ‏}‏ علة لفعل التمكين وما بعد علة لما بعد، ويجوز أيضاً أن ترجع الضمائر في ‏{‏أَنَّهُ وَبِهِ وَلَهُ‏}‏ للموحى الذي يقرأه كل من الرسل والأنبياء عليهم السلام المفهوم من الكلام فلا حاجة للتخصيص، وأياً ما كان فقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِنَّ الله لَهَادِ الذين ءامَنُواْ إلى صراط مُّسْتَقِيمٍ‏}‏ اعتراض مقرر لما قبله، والمراد بالذين آمنوا المؤمنين من هذه الأمة على تقدير التخصيص أو المؤمنون مطلقاً على تقدير التعميم، والمراد بالصراط المستقيم النظر الصحيح الموصل إلى الحق الصريح أي إنه تعالى لهادي المؤمنين في الأمور الدينية خصوصاً في المداخض والمشكلات التي من جملتها رد شبه الشياطين عن آيات الله عز وجل‏.‏ وقرأ أبو حيوة‏.‏ وابن أبي عبلة ‏{‏لَهَادِ‏}‏ بالتنوين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏55‏]‏

‏{‏وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ ‏(‏55‏)‏‏}‏

‏{‏وَلاَ يَزَالُ الذين كَفَرُواْ فِى مِرْيَةٍ‏}‏ أي في شك ‏{‏مِنْهُ‏}‏ أي من القرآن؛ وقيل‏:‏ من الرسول، ويجوز أن يرجع الضمير إلى الموحى على ما سمعت و‏{‏مِنْ‏}‏ على جميع ذلك ابتدائية، وجوز أن يرجع إلى ما ألقى الشيطان وأختير عليه أن من سببية فإن مرية الكفار فيما جاءت به الرسل عليهم السلام بسبب ما ألقى الشيطان في الموحى من الشبه والتخيلات فتأمل ‏{‏حتى تَأْتِيَهُمُ الساعة‏}‏ أي القيامة نفسها كما يؤذن به قوله تعالى‏:‏ ‏{‏بَغْتَةً‏}‏ أي فجأة فإنها الموصوفة بالاتيان كذلك، وقيل‏:‏ أشراطها على حذف المضاف أو على التجوز‏.‏

وقيل‏:‏ الموت على أن التعريف في ‏{‏الساعة‏}‏ للعهد ‏{‏أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ‏}‏ أي منفرد عن سائر الأيام لا مثل له في شدته أو لا يوم بعده كأن كل يوم يلد‏.‏ ما بعده من الأيام فما لا يوم بعده يكون عقيماً، والمراد به الساعة بمعنى يوم القيامة أيضاً كأنه قيل أو يأتيهم عذابها فوضع ذلك موضع ضميرها لمزيد التهويل والتخويف‏.‏ و‏{‏أَوْ‏}‏ في محلها لتغاير الساعة وعذابها وهي لمنع الخلو وكان المراد المبالغة في استمرارهم على المرية، وقيل‏:‏ المراد بيوم عقيم يوم موتهم فإنه لا يوم بعده بالنسبة إليهم، وقيل‏:‏ المراد به يوم حرب يقتلون فيه، ووصف بالعقيم لأن أولاد النساء يقتلون فيه فيصرن كأنهن عقم لم يلدن أو لأن المقاتلين يقال لهم أبناء الحرب فإذا قتلوا وصف يوم الحرب بالعقيم، وفيه على الأول مجاز في الإسناد ومجاز في المفرد من جعل الثكل عقماً، وكذا على الثاني لأن الولود والعقيم هي الحرب على سبيل الاستعارة بالكناية فإذا وصف يوم الحرب بذلك كان مجازاً في الإسناد، ومن ثم قيل‏:‏ إنه مجاز موجه من قولهم ثوب موجه له وجهان، وقيل‏:‏ هو الذي لا خير فيه يقال‏:‏ ريح عقيم إذا لم تنشىء مطراً ولم تلقح شجراً، وفيه على هذا استعارة تبعية لأن ما في اليوم من الصفة المانعة من الخير جعل بمنزلة العقم، وخص غير واحد هذا اليوم بيوم بدر فإنه يوم حرب قتل فيه عتاة الكفرة ويوم لا خير فيه لهم، ويصح أيضاً أن يكون وصفه بعقيم لتفرده بقتال الملائكة عليهم السلام فيه، وأنت تعلم أن الظاهر مما يأتي بعد إن شاء الله تعالى تعين تفسير هذا اليوم بيوم القيامة، هذا وجوز أن يراد من الشيطان شيطان الإنس كالنضر بن الحرث كان يلقي الشبه إلى قومه وإلى الوافدين يثبطهم بها عن الإسلام، وقيل‏:‏ ضمير ‏{‏أُمْنِيَّتِهِ‏}‏ للشيطان والمراد بها الصورة الحاصلة في النفس من تمني الشيء و‏{‏فِى‏}‏ للسببية مثلها في قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏

‏"‏ إن امرأة دخلت النار في هرة ‏"‏ أي ألقى الشيطان بسبب أمنيته الشبه وأبداها ليبطل بها الآيات‏.‏

وقيل‏:‏ ‏{‏تمني‏}‏ قرأ و‏{‏فِى أُمْنِيَّتِهِ‏}‏ قراءته والضميرء للنبي أو الرسول و‏{‏فِى‏}‏ على ظاهرها، والمراد بما يلقى الشيطان ما يقع للقارىء من إبدال كلمة بكلمة أو حرف بحرف أو تغيير إعراب سهواً، وقيل‏:‏ المراد ما يلقيه في الآيات المتشابهة من الاحتمالات التي ليست مراداً لله تعالى، وقيل‏:‏ تمني هيأ وقدر في نفسه ما يهواه و‏{‏أُمْنِيَّتِهِ‏}‏ قراءته، والمعنى إذا تمنى إيمان قومه وهدايتهم ألقى الشيطان إلى أوليائه شبهاً فينسخ الله تعالى تلك الشبه ويحكم الآيات الدالة على دفعها، وقيل‏:‏ ‏{‏تمني‏}‏ قدر في نفسه ما يهواه و‏{‏فِى أُمْنِيَّتِهِ‏}‏ تشهيه وما يلقيه الشيطان ما يوجب اشتغاله في الدنيا، وجعله فتنة باعتبار ما يظهر منه من الاشتغال بأمور الدنيا، ونسخه إبطاله بعصمته عن الركون إليه والإرشاد إلى ما يزينه‏.‏

وقيل‏:‏ ‏{‏تمني‏}‏ قرأ و‏{‏فِى أُمْنِيَّتِهِ‏}‏ قراءته وما يلقي الشيطان كلمات تشابه الوحي يتكلم بها الشيطان بحيث يظن السامع أنها من قراءة النبي، وقد روى أن الآية نزلت حين قرأ عليه الصلاة والسلام ‏{‏أَفَرَءيْتُمُ اللات والعزى ومناة الثالثة الاخرى‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 19، 20‏]‏ فألقى الشيطان في سكتته محاكياً نغمته عليه الصلاة والسلام بحيث يسمعه من حوله تعالى الغرانيق العلا وإن شفاعتهن لترتجي فظن المشركون أنه عليه الصلاة والسلام هو المتكمل بذلك ففرحوا وسجدوا معه لما سجد آخر السورة، وقيل‏:‏ المتكلم بذلك بعض المشركين وظن سائرهم أنه عليه الصلاة والسلام هو المتكلم به، وقيل‏:‏ إنه صلى الله عليه وسلم هو الذي تلكم بذلك عامداً لكن مستفهما على سبيل الإنكار والاحتجاج على المشركين، وجعل من إلقاء الشيطان لما ترتب عليه من ظن المشركين أنه مدح لآلهتهم، ولا يمنع ذلك أنه عليه الصلاة والسلام كان يصلي لأن الكلام في الصلاة كان جائزاً إذ ذاك‏.‏

وقيل‏:‏ بل كان ساهياً، فقد أخرج عبد بن حميد من طريق يونس عن ابن شهاب قال‏:‏ حدثني أبو بكر بن عبد الرحمن «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة قرأ عليهم والنجم فلما بلغ ‏{‏أَفَرَءيْتُمُ اللات والعزى ومناة الثالثة الاخرى‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 19، 20‏]‏ قال‏:‏ إن شفاعتهن ترتجي وسها رسول الله عليه الصلاة والسلام ففرح المشركون بذلك فقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ ألا إنما ذلك من الشيطان ‏"‏ فأنزل الله تعالى ‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَا‏}‏ حتى بلغ ‏{‏عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 52 55‏]‏، قال الجلال السيوطي‏:‏ وهو خبر مرسل صحيح الإسناد، وقيل‏:‏ تكلم بذلك ناعساً‏.‏

فقد أخرج ابن أبي حاتم عن قتادة قال‏:‏ بينا نبي الله صلى الله عليه وسلم يصلي عند المقام إذ نعس فألقى الشيطان على لسانه كلمة فتكلم ها قال‏:‏ ‏{‏أَفَرَءيْتُمُ اللات والعزى ومناة الثالثة الاخرى‏}‏ وإن شفاعتهن لترتجي وإنها لمع الغرانيق العلا فحفظها المشركون وأخبرهم الشيطان أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قد قرأها فزلت ألسنتهم فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَا‏}‏ الآية، وقيل‏:‏ ‏{‏تمني‏}‏ قدر في نفسه ما يهواه ودأمنيته‏}‏ قراءته وما يلقي الشيطان كلمات تشابه الوحي، فقد أخرج ابن أبي حاتم من طريق موسى بن عقبة عن ابن شهاب قال‏:‏ أنزلت سورة النجم وكان المشركون يقولون‏:‏ لو كان هذا الرجل يذكر آلهتنا بخير أقررناه وأصحابه ولكنه لا يذكر من خالف دينه من اليهود والنصارى بمثل الذي يذكر آلهتنا من الشتم والشر وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد اشتد عليه ما ناله أصحابه من أذاهم وتكذيبهم وأحزنه ضلالتهم فكان يتمنى هداهم فلما أنزل الله تعالى سورة النجم قال‏:‏

‏{‏أَفَرَءيْتُمُ اللات والعزى ومناة الثالثة الاخرى‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 19، 20‏]‏ قراءته وما يلقي الشيطان كلمات تشابه الوحي، فقد أخرج ابن أبي حاتم من طريق موسى بن عقبة عن ابن شهاب قال‏:‏ أنزلت سورة النجم وكان المشركون يقولون‏:‏ لو كان هذا الرجل يذكر آلهتنا بخير أقررناه وأصحابه ولكنه لا يذكر من خالف دينه من اليهود والنصارى بمثل الذي يذكر آلهتنا من الشتم والشر وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد اشتد عليه ما ناله أصحابه من أذاهم وتكذيبهم وأحزنه ضلالتهم فكان يتمنى هداهم فلما أنزل الله تعالى سورة النجم قال‏:‏ ‏{‏أَفَرَءيْتُمُ اللات والعزى ومناة الثالثة الاخرى‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 19، 20‏]‏ ألقى الشيطان عندها كلمات فقال‏:‏ وإنهن لهن الغرانيق العلا وإن شفاعتهن لهي التي ترتجي وكان ذلك من سجع الشيطان وفتنته فوقعت هاتان الكلمتان في قلب كل مشرك بمكة وزلت بهما ألسنتهم وتباشروا بهما وقالوا‏.‏ إن محمدا قد رجع إلى دينه الأول ودين قومه فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم آخر النجم سجد وسجد كل من حضر من مسلم أو مشرك ففشت تلك الكلمة في الناس وأظهرها الشيطان حتى بلغت أرض الحبشة فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَا‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 52‏]‏ الآيات، وقيل‏:‏ إن النبي صلى الله عليه وسلم حين ألقاها الشيطان تكلم بها ظانا أنها وحى حتى نبهه جبريل عليه السلام، ففي الدر المنثور أخرج ابن جرير وابن المنذر‏.‏ وابن أبي حاتم بسند صحيح عن سعيد بن جبير قال‏:‏ قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة النجم فلما بلغ «أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى» ألقى الشيطان على لسانه تلك الغرانيق العلا وإن شفاعتهن لترتجي قالوا‏:‏ ما ذكر آلهتنا بخير قبل اليوم فسجد وسجدوا ثم جاءه جبريل عليهما الصلاة والسلام بعد ذلك فقال‏:‏ اعرض على ما جئتك به فلما بلغ تلك الغرانيق العلا وإن شفاعتهن لترتجي قال له جبريل عليهما السلام‏:‏ لم آتك بهذا هذا من الشيطان فأنزل الله تعالى‏:‏

‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَا‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 52‏]‏ الآية‏.‏

وأخرج البزار‏.‏ والطبري‏.‏ وابن مردويه‏.‏ والضياء في المختارة بسند رجاله ثقات من طريق سعيد عن ابن عباس نحو ذلك لكن ليس فيه حديث السجود وفيه أيضاً مغايرة يسيرة غير ذلك، وجاء حديث السجود في خبر آخر عنه أخرجه البزار‏.‏ وابن مردويه أيضاً من طريق أمية بن خالد عن شعبة لكن قال في إسناده‏:‏ عن سعيد بن جبير عن ابن عباس فيما أحسب فشك في وصله، وفي رواية أبي حاتم عن السدي أن جبريل عليه السلام قال له عليه الصلاة والسلام حين عرض عليه ذلك‏:‏ معاذ الله أن أكون أقرأتك هذا فاشتد عليه عليه الصلاة والسلام فأنزل الله تعالى وطيب نفسه ‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَا‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 52‏]‏ الآية قيل‏:‏ ولمشابهة ما ألقى الشيطان للوحي المنزل وكونه في أثنائه أطلق على إبطاله اسم النسخ الشائع إيقاعه على ما هو وحي حقيقة لكن لا يخفى أن النسخ الشرعي لا يتعلق بنحو ما ذكر من الإخبار فلا بد من تأويل ما لذلك، وقد أنكر كثير من المحققين هذه القصة فقال البيهقي‏:‏ هذه القصة غير ثابتة من جهة النقل‏.‏ وقال القاضي عياض في الشفاء‏:‏ يكفيك في توهين هذا الحديث أنه لم يخرجه أحد من أهل الصحة ولا رواه ثقة بسند صحيح سليم متصل وإنما أولع به وبمثله المفسرون‏.‏ والمؤرخون المولعون بكل غريب المتلقفون من الصحف كل صحيح وسقيم‏.‏

وفي «البحر» أن هذه القصة سئل عنها الإمام محمد بن إسحاق جامع السيرة النبوية فقال‏:‏ هذا من وضع الزنادقة وصنف في ذلك كتاباً‏.‏ وذكر الشيخ أبو منصور الماتريدي في كتاب حصص الأتقياء الصواب أن قوله‏:‏ تلك الغرانيق العلا من جملة إيحاء الشيطان إلى أوليائه من الزنادقة حتى يلقوا بين الضعفاء وأرقاء الدين ليرتابوا في صحة الدين وحضرة الرسالة بريئة من مثل هذه الرواية‏.‏ وذكر غير واحد أنه يلزم على القول بأن الناطق بذلك النبي صلى الله عليه وسلم بسبب إلقاء الشيطان الملبس بالملك أمور‏.‏ منها تسلط الشيطان عليه عليه الصلاة والسلام وهو صلى الله عليه وسلم بالإجماع معصوم من الشيطان لا سيما في مثل هذا من أمور الوحي والتبليغ والاعتقاد، وقد قال سبحانه‏:‏ ‏{‏إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سلطان‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 42‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ على الذين ءامَنُواْ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 99‏]‏ إلى غير ذلك، ومنها زيادته صلى الله عليه وسلم في القرآن ما ليس منه وذلك مما يستحيل عليه عليه الصلاة والسلام لمكان العصمة، ومنها اعتقاد النبي صلى الله عليه وسلم ما ليس بقرآن أنه قرآن مع كونه بعيد الالتئام متناقضاً ممتزج المدح بالذم وهو خطأ شنيع لا ينبغي أن يتساهل في نسبته إليه صلى الله عليه وسلم، ومنها أنه إما أن يكون عليه الصلاة والسلام عند نطقه بذلك متعقداً ما اعتقده المشركون من مدح آلهتهم بتلك الكلمات وهو كفر محال في حقه صلى الله عليه وسلم وإما أن يكون معتقداً معنى آخر مخالفاً لما اعتقدوه ومبايناً لظاهر العبارة ولم يبينه لهم مع فرحهم وادعائهم أنه مدح آلهتهم فيكون مقراً لهم على الباطل وحاشاه صلى الله عليه وسلم أن يقر على ذلك‏.‏

ومنها كونه صلى الله عليه وسلم اشتبه عليه ما يلقيه الشيطان بما يلقيه عليه الملك وهو يقتضي أنه عليه الصلاة والسلام على غير بصيرة فيما يوحى إليه، ويقتضي أيضاً جواز تصور الشيطان بصورة الملك ملبساً على النبي ولا يصح ذلك كما قال في الشفاء لا في أول الرسالة ولا بعدها والاعتماد في ذلك دليل المعجزة‏.‏

وقال ابن العربي‏:‏ تصور الشيطان في صورة الملك ملبساً على النبي كتصوره في صورة النبي ملبساً على الخلق وتسليط الله تعالى له على ذلك كتسليطه في هذا فكيف يسوغ في لب سليم استجازة ذلك‏.‏ ومنها التقول على الله تعالى إما عمداً أو خطأ أو سهواً‏.‏ وكل ذلك محال في حقه عليه الصلاة والسلام، وقد اجتمعت الأمة على ما قال القاضي عياض على عصمته صلى الله عليه وسلم فيما كان طريقه البلاغ من الأقوال عن الأخبار بخلاف الواقع لا قصداً ولا سهواً، ومنها الإخلال بالوثوق بالقرآن فلا يؤمن فيه التبديل والتغيير، ولا يندفع كما قال البيضاوي بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فينسخ الله ما يلقى الشيطان ثم يحكم الله آياته‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 52‏]‏ لأنه أيضاً يحتمل إلى غير ذلك‏.‏ وذهب إلى صحتها الحافظ ابن حجر في «شرح البخاري» وساق طرقاً عن ابن عباس‏.‏ وغيره ثم قال‏:‏ وكلها سوى طريق سعيد بن جبير إما ضعيف وإما منقطع لكن كثرة الطرق تدل على أن لها أصلاً مع أن لها طريقاً متصلاً بسند صحيح أخرجه البزار وطريقين آخرين مرسلين رجالهما على شرط الصحيحين، أحدهما‏:‏ ما أخرجه الطبري من طريق يونس بن يزيد عن ابن شهاب، والثاني‏:‏ ما أخرجه أيضاً من طريق المعتمر بن سليمان‏.‏ وحماد بن سلمة فرقهما عن داود بن أبي هند عن أبي العالية، ثم أخذ في الرد على أبي بكر بن العربي‏.‏ والقاضي عياض في إنكارهما الصحة‏.‏

وذهب إلى صحة القصة أيضاً خاتمة المتأخرين الشيخ إبراهيم الكوراني ثم المدني، وذكر بعد كلام طويل أنه تحصل من ذلك أن الحديث أخرجه غير واحد من أهل الصحة وأنه رواه ثقات بسند سليم متصل عن ابن عباس وبثلاث أسانيد صحيحة عن ثلاث من التابعين من أئمة التفسير الآخذين عن الصحابة وهم سعيد بن جبير وأبو بكر بن عبد الرحمن‏.‏

وأبو العالية، وقد قال السيوطي في لباب النقول في أسباب النزول‏:‏ قال الحاكم في علوم الحديث‏:‏ إذا أخبر الصحابي الذي شهد الوحي والتنزيل عن آية من القرآن أنها نزلت في كذا فإنه حديث مسند ومشى عليه ابن الصلاح‏.‏ وغيره ثم قال‏:‏ ما جعلناه من قبيل المسند من الصحابي إذا وقع من تابعي فهو مرفوع أيضاً لكنه مرسل فقد يقبل إذا صح السند إليه وكان من أئمة التفسير الآخذين عن الصحابة كمجاهد وعكرمة‏.‏ وسعيد بن جبير أو اعتضد بمرسل ونحو ذلك، فعلى هذا يكون الخبر في هذه القصة مسنداً من الطريق المتصلة بابن عباس مرسلاً مرفوعاً من الطرق الثلاثة والزيادة فيه التي رواها الثقات عن ابن عباس في غير رواية البخاري ليست مخالفة لما في البخاري عنه فلا تكون شاذة فإطلاق الطعن فيه من حيث النقل ليس في محله، وأجاب عما يلزم على تقدير كون الناطق بذلك النبي صلى الله عليه وسلم، أما عن الأول فبأن السلطان المنفي عن العباد المخلصين هو الإغواء أعني التلبيس المخل بأمر الدين وهو الذي وقع الإجماع على أن النبي عليه الصلاة والسلام معصوم منه وأما غير المخل فلا دليل على نفيه ولا إجماع على العصمة منه وما هنا غير مخل لعدم منافاته للتوحيد كما يبين إن شاء الله تعالى بل فيه تأديب وتصفية وترقية للحبيب الأعظم صلى الله عليه وسلم لأنه عليه الصلاة والسلام تمنى هدى الكل ولم يكن ذلك مراداً لله تعالى والأكمل في العبودية فناء إرادته في إرادة الحق سبحانه فليس عليه عليه الصلاة والسلام الإلقاء حالة تمني هدى الكل المصادم للقدر والمنافي لما هو الأكمل ليترقى إلى الأكمل وقد حصل ذلك بهذه المرة ولذا لم يقع التلبيس مرة أخرى بل كان يرسل بعد من بين يديه ومن خلفه رصد ليعلم أن قد أبلغوا رسالة ربه سبحانه، وفي ترتيب الإلقاء على التمني ما يفهم العتاب عليه؛ وأما عن الثاني فبأن المستحيل المنافي للعصمة أن يزيد عليه الصلاة والسلام فيه من تلقاء نفسه أي يزيد فيه ما يعلم أنه ليس منه وما هنا ليس كذلك لأنه عليه الصلاة والسلام إنما تبع فيه الإلقاء الملبس عليه في حالة خاصة فقط تأديباً أن يعود لمثل تلك الحالة، وأما عن الثالث فبأنه يجوز أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم نطق به على فهم أنه استفهام إنكاري حذف منه الهمزة أو حكاية عنهم بحذف القول وحينئذٍ لا يكون بعيد الالتئام ولا متناقضاً ولا ممتزج المدح بالذم ولا بد من التزام أحد الأمرين على تقدير صحة الخبر لمكان العصمة، والنكتة في التعبير كذلك إيهام الذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم أنه عليه الصلاة والسلام مدح آلهتهم ويحصل ذلك مراد الله تعالى المشار إليه بقوله سبحانه‏:‏

‏{‏لِيَجْعَلَ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 53‏]‏ الخ، وأما عن الرابع فبأنا نختار الشق الثاني بناءً على أنه استفهام حذف منه الهمزة أو حكاية بحذف القول، وعلى التقديرين يكون عليه الصلاة والسلام معتقداً لمعنى مخالف لما اعتقدوه؛ ولا يلزم منه التقرير على الباطل لأنه بين بطلان معتقدهم بقوله تعالى بعد‏:‏ ‏{‏إِنْ هِىَ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَءابَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ الله بِهَا مِن سلطان‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 23‏]‏ فإن ما لم ينزل الله تعالى به سلطاناً لا ترجى شفاعته إذ لا شفاعة إلا من بعد إذن إلهي لقوله تعالى بعد‏:‏ ‏{‏وَكَمْ مّن مَّلَكٍ فِى السموات *لاَ تُغْنِى شفاعتهم شَيْئاً إِلاَّ مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ الله لِمَن يَشَاء ويرضى‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 26‏]‏‏.‏

وأما عن الخامس فبأن هذا الاشتباه في حالة خاصة للتأديب لا يقتضي أن يكون صلى الله عليه وسلم على غيره بصيرة فيما يوحى إليه في غير تلك الحالة، وأما قول القاضي عياض‏:‏ لا يصح أن يتصور الشيطان بصورة الملك ويلبس عليه عليه الصلاة والسلام فإن أراد به أنه لا يصح أن يلبس تلبيساً قادحاً فهو مسلم لكنه لم يقع وإن أراد مطلقاً ولو كان غير مخل فلا دليل عليه، ودليل المعجزة إنما ينفي الاشتباه المخل بأمر النبوة المنافي للتوحيد القادح في العصمة وما ذكر غير مخل بل فيه تأديب بما يتضمن تنقية وترقية إلى الأكمل في العبودية‏.‏ وأما ما ذكر ابن العربي فقياس مع الفارق لأن تصور الشيطان في صورة النبي مطلقاً منفي بالنص الصحيح وتصوره في صورته ملبساً على الخلق إغواء يعم وهو سلطان منفي بالنص عن المخلصين، وأما تصوره في صورة الملك في حالة خاصة ملبساً على النبي بما لا يكون منافياً للتوحيد لما يريد الله تعالى بذلك تأديباً ولإيهامه خلاف المراد فتنة لقوم فليس من السلطان المنفي ولا بالتصور الممنوع لعدم إخلاله بمقام النبوة‏.‏

وأما عن السادس فبأن التقول تكلف القول ومن لا يتبع إلا من يلقى إليه من الله تعالى حقيقة أو اعتقاداً ناشئاً من تلبيس غير مخل لا تكلف للقول عنده فلا تقول على الله تعالى أصلاً؛ وما أشبه هذه القصة بما تضمنه حديث ذي اليدين فالتلبيس عليه عليه الصلاة والسلام في الإلقاء في حالة التمني تأديباً كإيقاع السهو عليه صلى الله عليه وسلم في الصلاة باعتقاد التمام تشريعاً والنطق بما ألقاه الشيطان في حالة خاصة مما لا ينافي التوحيد على أنه قرآن بناءً على اعتقاد أن الملقى ملك تلبيساً للتأديب كالنطق بالسلام ثم بلم أنس معتقداً أنه مطابق للواقع بناءً على اعتقاد التمام سهواً، ووقوع البيان على لسان جبريل عليه السلام ثم النسخ والإحكام كوقوع البيان على لسان الصحابي ثم التدارك وسجود السهو فكما أن السهو للتشريع غير قادح في منصب النبوة كذلك الاشتباه في الإلقاء للتأديب غير قادح، وكما أن النطق بلم أنس مع تبين أنه عليه الصلاة والسلام قد نسي صدق بناء على اعتقاد التمام سهواً كذلك النطق بما يلقيه الشيطان في تلك الحالة على أنه قرآن بناءً على اعتقاد أن الملقى ملك صدق ولا شيء من الصدق بالتقول فلا شيء من النطق بما يلقيه الشيطان في تلك الحالة به، وما ذكر عن القاضي عياض من حكاية الإجماع على عدم جواز دخول السهو في الأقوال التبليغية كما قال الحافظ ابن حجر متعقب‏.‏

وأما عن السابع فبأنه لا إخلال بالوثوق بالقرآن عند الذين أوتوا العلم والذين آمنوا لأن وثوق كل منهما تابع لوثوق متبوعهم الصادق الأمين فإذا جزم بشيء أنه كذا جزموا به وإذا رجع عن شيء بعد الجزم رجعوا كما هو شأنهم في نسخ غير هذا من الآيات التي هي كلام الله تعالى لفظاً ومعنى إذ قبل نسخ ما نسخ لفظه كانوا جازمين بأنهم متعبدون بتلاوته وبعد النسخ جزموا بأنهم ما هم متعبدين بتلاوته، وما نسخ حكمه كانوا جازمين بأنهم مكلفون بحكمه وبعد النسخ جزموا بأنهم ما هم مكلفين به، فقول البيضاوي‏:‏ إن ذلك لا يندفع بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَيَنسَخُ الله‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 52‏]‏ الخ لأنه أيضاً يحتمله ليس بشيء، وبيانه أنه إن أراد أنه يحتمله عند الفرق الأربع المذكورة في الآيات وهم الذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم والذين أوتوا العلم والذين آمنوا فهو ممنوع لدلالة قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلِيَعْلَمَ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 54‏]‏ الخ على انتفاء الاحتمال عند فريقين من الفرق الأربع بعد النسخ والأحكام، وإن أراد أنه يحتمله في الجملة أي عند بعض دون بعض فهو مسلم وغير مضر لعدم إخلاله بالوثوق بالقرآن عند الذين أوتوا العلم والذين آمنوا، وأما إخلاله بالنسبة إلى الفريقين الآخرين فهو مراد الله عز وجل‏.‏

هذا واعترض على الجواب الأول بأن التلبيس بحيث يشتبه الأمر على النبي صلى الله عليه وسلم فيعتقد أن الشيطان ملك مخل بمقام النبوة ونقص فيه فإن الولي الذي هو دونه عليه الصلاة والسلام بمراتب لا يكاد يخفى عليه الطائع من العاصي فيدرك نور الطاعة وظلمة المعصية فكيف بمن هو سيد الأنبياء ونور عيون قلوب الأولياء يلتبس عليه من هو محض نور بمن محض ديجور، واشتباه جبريل عليه السلام عليه صلى الله عليه وسلم في بعض المرات حتى لم يعرفه إلى أن ذهب فقال‏:‏ «والذي نفسي بيده ما شبه علي منذ أتاني قبل مرتي هذه وما عرفته حتى ولى» إذا صح ليس من قبيل اشتباه الشيطان به عليه السلام إذ يجوز أن يكون من اشتباه ملك بملك وكل منهما نوراني، وقد كان يأتيه صلى الله عليه وسلم غير جبريل عليه السلام من الملائكة الكرام، وأن يكون من اشتباه ملك بواحد من البشر نوراني أيضاً لم يكن رآه عليه الصلاة والسلام قبل ذلك كالخضر والياس مثلاً إن قلنا بحياتهما‏.‏

وأيضاً قال المحققون‏:‏ إن الأنبياء عليهم السلام ليس لهم خاطر شيطاني، وكون ذلك ليس منه بل كان مجرد إلقاء على اللسان دون القلب ممنوع ألا ترى أنه قال تعالى‏:‏ ‏{‏أَلْقَى الشيطان فِى أُمْنِيَّتِهِ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 52‏]‏ دون ألقى الشيطان على لسانه، وتسمية القراءة أمنية لما أن القارىء يقدر الحروف في قلبه أولاً ثم يذكرها شيئاً فشيئاً، وأيضاً حفظه صلى الله عليه وسلم لذلك إلى أن أمسى كما جاء في بعض الروايا فنبهه عليه جبريل عليهما السلام يبعد كون الإلقاء على اللسان فقط، على أنا لو سلمنا ذلك وقلنا‏:‏ إن الشيطان ألقى على لسانه صلى الله عليه وسلم ولم يلق في قلبه كما هو شأن الوحي المشار إليه بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏نَزَلَ بِهِ الروح الامين على قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ المنذرين‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 193، 194‏]‏ وقلنا‏:‏ إن ذلك مما يعقل للزم أن يعلم صلى الله عليه وسلم من خلو قلبه واشتغال لسانه أن ذلك ليس من الوحي في شيء ولم يحتج إلى أن يعلمه جبريل عليه السلام، والقول بأنه لبس الحال عليه عليه الصلاة والسلام للتأديب والترقية إلى المقام الأكمل في العبودية وهو فناء إرادته صلى الله عليه وسلم في إرادة مولاه عز وجل حيث تمنى إيمان الكل وحرص عليه ولم يكن مراد الله تعالى مما لا ينبغي أن يلتفت إليه لأن القائل به زعم أن التأديب بذلك كان بعد قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِن استطعت أَن تَبْتَغِىَ نَفَقاً فِى الارض أَوْ سُلَّماً فِى السماء فَتَأْتِيَهُمْ بِئَايَةٍ وَلَوْ‏}‏ ‏[‏الإنعام‏:‏ 35‏]‏ ولا شك أن التأديب به لم يبق ولم يذر ولم يقرن بما فيه تسلية أصلاً فإذا قيل والعياذ بالله تعالى‏:‏ إن ذلك لم ينجع فكيف ينجع ما دونه، وأيضاً أية دلالة في الآية على التأديب وهي لم تخرج مخرج العتاب بل مخرج التسلية على أبلغ وجه عما كان يفعل المشركون من السعي في إبطال الآيات، ولا نسلم أن ترتيب الإلقاء على التمني مع ما في السباق والسياق مما يدل على التسلية عن ذلك يجدي نفعاً في هذا الباب كما لا يخفى على ذوي الألباب‏.‏

ويرد على قوله‏:‏ إنه بعد حصول التأديب بما ذكر كان يرسل من بين يديه ومن خلفه رصد يحفظونه من إلقاء الشيطان أنه لم يدل دليل على تخصيص الإرسال بما بعد ذلك بل الظاهر أن ذلك كان في جميع الأوقات فقد أخرج عبد بن حميد‏.‏ وابن جرير عن الضحاك بن مزاحم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِلاَّ مَنِ ارتضى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً‏}‏

‏[‏الجن‏:‏ 27‏]‏ قال‏:‏ كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا بعث إليه الملك بالوحي بعث معه ملائكة يحرسونه من بين يديه ومن خلفه أن يتشبه الشيطان بالملك، وقد ذكروا أن كان في ذلك للاستمرار‏.‏

وأخرج ابن أبي حاتم بسند صحيح عن سعيد بن جبير قال‏:‏ ما جاء جبريل عليه السلام بالقرآن إلى النبي صلى الله عليه وسلم إلا ومعه أربعة من الملائكة حفظة، وهذا صريح في ذلك ولا شك أن هذا الإلقاء عند من يقول به كان عند نزول الوحي، فقد أخرج ابن جرير‏.‏ وابن مردويه من طريق العوفي عن ابه عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم بينما هو يصلي إذ نزلت عليه قصة آلهة العرب فجعل يتلوها فسمعه المشركون فقالوا‏:‏ إنا نسمعه يذكر آلهتنا بخير فدنوا منه فبينما هو يتلوها وهو يقول‏:‏ ‏{‏أَفَرَءيْتُمُ اللات والعزى ومناة الثالثة الاخرى‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 19، 20‏]‏ ألقى الشيطان تلك الغرانيق العلا منها الشفاعة ترتجى فعلى هذا ونحوه يكون الرصد موجوداً مع عدم ترتب أثره عليه؛ والقول بأن جبريل عليه السلام ومن معه تنحوا عنه حتى ألقى الشيطان ما ألقى بناءً على ما أخرج ابن مردويه عن ابن عباس أنه قال في آية الرصد‏:‏ كان النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يلقي الشيطان في أمنيته يدنون منه فلما ألقى الشيطان في أمنيته أمرهم أن يتنحوا عنه قليلاً فإن المراد من قوله‏:‏ فيه فلما ألقى فلما أراد أن يلقى في حيز المنع وكذا صحة هذا الخبر، ثم أية فائدة في إنزال الرصد إذا لم يحصل به الحفظ بل كيف يسمى رصداً‏.‏ ومما ذكر في هذا الاعتراض يعلم ما في الجواب الثاني من الاعتراض وهو ظاهر، وقد يقال‏:‏ إن إعجاز القرآن معلوم له صلى الله عليه وسلم ضرورة كما ذهب إليه أبو الحسن الأشعري بل قال القاضي‏:‏ إن كل بليغ أحاط بمذاهب العرب وغرائب الصنعة يعلم ضرورة إعجازه، وذكر أن الإعجاز يتعلق بسورة أو قدرها من الكلام بحيث يتبين فيه تفاضل قوي البلاغة فإذا كانت آية بقدر حروف سورة وإن كانت كسورة الكوثر فهو معجز، وعلى هذا يمتنع أن يأتي الجن والإنس ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً بمقدار أقصر سورة منه تشبهه في البلاغة ومتى أتى أحد بما يزعم فيه ذلك لم تنفق سوقه عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذا عند كل بليغ محيط بما تقدم ولم يخف على الرسول عليه الصلاة والسلام ولا على ذلك البليغ عدم إعجازه فلا يشتبه عنده بالقرآن أصلاً، ولا شك أن ما ألقى الشيطان على ما في بعض الروايات حروفه بقدر حروف سورة الكوثر بل أزيد إن اعتبر الحرف المشدد بحرفين وهو وإنهن لهن الغرانيق العلا وإن شفاعتهن لهي التي ترتجي الوراد فيما أخرجه ابن أبي حاتم من طريق موسى بن عقبة عن ابن شهاب‏.‏

وجاء في رواية ابن جرير‏.‏ وابن المنذر‏.‏ وابن أبي حاتم بسند قال السيوطي‏:‏ هو صحيح عن أبي العالية أنه ألقى تلك الغرانيق العلا وشفاعتهن ترتجى وترتضى ومثلهن لا ينسى وحروفه أزيد من حروفها إذا لم يعتبر الحرف المشدد في شيء منهما بحرفين أما إذا اعتبر فحروفها أزيد بواحد فإن كان ما ذكر مما يتعلق به الإعجاز فإن كان معجزاً لزم أن يكون من الله تعالى لا من إلقاء عدوه ضرورة عجزه كسائر الجن والإنس عن الإتيان بذلك، وإن لم يكن مما يتعلق به الإعجاز فهو كلام غير يسير يتنبه البليغ الحاذق إذا سمعه أثناء كلام فوقه بمراتب لكونه ليس منه فيبعد كل البعد أن يخفى عليه عليه الصلاة والسلام قصور بلاغته عن بلاغة شيء من آيات القرآن سواء قلنا بتفاوتها في البلاغة كما اختاره أبو نصر القشيري‏.‏ وجماعة أم قلنا بعدم التفاوت كما اختاره القاضي فيعتقد أنه قرآن حتى ينبهه جبريل عليه السلام لا سيما وقد تكرر على سمعه الشريف سكر الآيات ومازجت لحمه ودمه، والواحد منا وإن لم يكن من البلاغة بمكان إذا ألف شعر شاعر وتكرر على سمعه يعلم إذا دس بيت أو شطر في قصيدة له أن ذلك ليس له وقد يطالب بالدليل فلا يزيد على قوله‏:‏ لأن النفس مختلف، وهذا البعد متحقق عندي على تقدير كون الملقى ما في الرواية الشائعة وهو تلك الغرانيق العلا وإن شفاعتهم لترتجى أيضاً لا سيما على قول جماعة‏:‏ إن الإعجاز يتعلق بقليل القرآن وكثيره من الجمل المفيدة لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَلْيَأْتُواْ بِحَدِيثٍ مّثْلِهِ‏}‏ ‏[‏الطور‏:‏ 34‏]‏ والقول بأن النبي صلى الله عليه وسلم خفي عليه ذلك للتأديب فيه ما فيه، ولا يبعد استحقاق قائله للتأنيب‏.‏

وما ذكره في الجواب عن الثالث من أنه لا بد من حمل الكلام على الاستفهام أو حذف القول وهو دون الأول إذا صح الخبر صحيح لكن إثبات صحة الخبر أشد من خرط القتاد فإن الطاعنين فيه من حيث النقل علماء أجلاء عارفون بالغث والسمين من الإخبار وقد بذلوا الوسع في تحقيق الحق فيه فلم يرووه إلا مردوداً وما ألقى الشيطان إلى أوليائه معدوداً وهم أكثر ممن قال بقبوله ومنهم من هو أعلم منه، ويغلب على الظن أنهم وقفوا على رواته في سائر الطرق فرأوهم مجروحين وفات ذلك القائل بالقبول، ولعمري أن القول بأن هذا الخبر مما ألقاه الشيطان على بعض ألسنة الرواة ثم وفق الله تعالى جمعاً من خاصته لإبطاله أهون من القول بأن حديث الغرانيق مما ألقاه الشيطان على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم نسخه سبحانه وتعالى لا سيما وهو مما لم يتوقف على صحته أمر ديني ولا معنى آية ولا ولا سوى أنها يتوقف عليها حصول شبه في قلوب كثير من ضعفاء المؤمنين لا تكاد تدفع إلا بجهد جهيد، ويؤيد عدم الثبوت مخالفته لظواهر الآيات فقد قال سبحانه في وصف القرآن‏:‏

‏{‏لاَّ يَأْتِيهِ الباطل مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 42‏]‏ والمراد بالباطل ما كان باطلاً في نفسه وذلك الملقى كذلك وإن سوغ نطق النبي صلى الله عليه وسلم به تأويله بأحد التأويلين، والمراد ‏{‏لاَّ يَأْتِيهِ‏}‏ استمرار النفي لا نفي الاستمرار‏.‏

وقال عز وجل‏:‏ ‏{‏إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر وَإِنَّا لَهُ لحافظون‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 9‏]‏ فجىء بالجملة الاسمية مؤكدة بتأكيدين ونسب فيها الحفظ المحذوف متعلقه إفادة للعموم إلى ضمير العظمة وفي ذلك من الدلالة على الاعتناء بأمر القرآن ما فيه‏.‏

وقد استدل بالآية من استدل على حفظ القرآن من الزيادة والنقص وما علينا ما قيل في ذلك، وكون الإلقاء المذكور لا ينافي الحفظ لأنه نسخ ولم يبق إلا زماناً يسيراً لا يخلو عن نظر، والظاهر أنه وإن لم يناف الحفظ في الجملة لكنه ينافي الحفظ المشار إليه في الآية على ما يتقضيه ذلك الاعتناء، ثم إن قيل‏:‏ بما روي عن الضحاك من أن سورة الحج كلها مدنية لزم بقاء ما ألقى الشيطان قرآناً في اعتقاد رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين زماناً طويلاً والقول بذلك من الشناعة بمكان، وقال جل وعلا‏:‏ ‏{‏إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْىٌ يوحى‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 4‏]‏ والظاهر أن الضمير لما ينطق به عليه الصلاة والسلام مما يتعلق بالدين، ومن هنا أخرج الدارمي عن يحيى بن أبي كثير أنه قال‏:‏ كان جبريل عليه السلام ينزل بالسنة كما ينزل بالقرآن‏.‏

والمتبادر من لحن الخطاب أن جميع ما ينطق به عليه الصلاة والسلام من ذلك ليس عن إلقاء شيطاني كما أنه ليس عن هوى، وبقيت آيات أخر في هذا الباب ظواهرها تدل على المدعي أيضاً، وتأويل جميع الظواهر الكثيرة لقول شرذمة قليلة بصحة الخبر المنافي لها مع قول جم غفير بعد الفحص التام بعدم صحته مما لا يميل إليه القلب السليم ولا يرتضيه ذو الطبع المستقيم، ويبعد القول بثبوته أيضاً عدم إخراج أحد من المشايخ الكبار له في شيء من الكتب الست مع أنه مشتمل على قصة غريبة وفي الطباع ميل إلى سماع الغريب وروايته ومع إخراجهم حديث سجود المشركين معه صلى الله عليه وسلم حين سجد آخر النجم، فقد روى البخاري‏.‏ ومسلم‏.‏ وأبو داود‏.‏ والنسائي‏.‏ وغيرهم عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ ‏{‏والنجم‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 1‏]‏ فسجد فيها وسجد كل من كان معه غير أن شيخاً من قريش أخذ كفاً من حصى أو تراب ورفعه إلى جبهته وقال‏:‏ يكفيني هذا‏.‏

وروى البخاري أيضاً‏.‏ والترمذي عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سجد بالنجم وسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس إلى غير ذلك، وليس لأحد أن يقول‏:‏ إن سجود المشركين يدل على أنه كان في السورة ما ظاهره مدح آلهتهم وإلا لما سجدوا لأنا نقول‏:‏ يجوز أن يكونوا سجدوا لدهشة أصابتهم وخوف اعتراهم عند سماع السورة لما فيها من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَاداً الاولى وَثَمُودَ فَمَا أبقى وَقَوْمَ نُوحٍ مّن قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُواْ هُمْ أَظْلَمَ وأطغى والمؤتفكة أهوى فغشاها مَا غشى‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 50-54‏]‏ إلى آخر الآيات فاستشعروا نزول مثل ذلك بهم، ولعلهم لم يسمعوا قبل ذلك مثلها منه صلى الله عليه وسلم وهو قائم بين يدي ربه سبحانه في مقام خطير وجمع كثير وقد ظنوا من ترتيب الأمر بالسجود على ما تقدم أن سجودهم ولو لم يكن عن إيمان كاف في دفع ما توهموه، ولا تستبعد خوفهم من سماع مثل ذلك منه صلى الله عليه وسلم فقد نزلت سورة حم السجدة بعد ذلك كما جاء مصرحاً به في حديث عن ابن عباس ذكره السيوطي في أول الاتقان فلما سمع عتبة بن ربيعة قوله تعالى فيها‏:‏ ‏{‏فَإِنْ أَعْرَضُواْ فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صاعقة مّثْلَ صاعقة عَادٍ وَثَمُودَ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 13‏]‏ أمسك على فم رسول الله صلى الله عليه وسلم وناشده الرحم واعتذر لقومه حين ظنوا به أنه صبأ وقال‏:‏ كيف وقد علمتم أن محمداً إذا قال شيئاً لم يكذب فخفت أن ينزل بكم العذاب‏.‏ وقد أخرج ذلك البيهقي في الدلائل‏.‏ وابن عساكر في حديث طويل عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنه‏.‏

ويمكن أن يقال على بعد‏:‏ إن سجودهم كان لاستشعار مدح آلهتهم ولا يلزم منه ثبوت ذلك الخبر لجواز أن يكون ذلك الاستشعار من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَفَرَءيْتُمُ اللات والعزى ومناة الثالثة الاخرى‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 19، 20‏]‏ بناءً على أن المفعول محذوف وقدروه حسبما يشتهون أو على أن المفعول ‏{‏أَلَكُمُ الذكر وَلَهُ الانثى‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 21‏]‏ وتوهموا أن مصب الإنكار فيه كون المذكورات إناثاً والحب للشيء يعمي ويصم، وليس هذا بأبعد من حملهم تلك الغرانيق العلا وإن شفاعتهن لترتجى على المدح حتى سجدوا لذلك آخر السورة مع وقوعه بين ذمين المانع من حمله على المدح في البين كما لا يخفى على من سلمت عين قلبه عن الغين‏.‏

واعترض على الجواب الرابع بأن سجودهم كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم آخراً بعد سماع قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنْ هِىَ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَءابَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ الله بِهَا مِن سلطان‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 23‏]‏ فكان ينبغي التنبيه بعد السجود، ولعلهم أرجعوا ضمير ‏{‏هِىَ‏}‏ للأسماء وهي قولهم اللات والعزى ومناة كما هو أحد احتمالين فيه ذكرهما الزمخشري، فيكون المعنى ما هذه الأسماء إلا أسماء سميتم بها بهواكم وشهوتكم ليس لكم على صحة التسمية بها برهان تتعلقون به، وحينئذٍ لا يكون فيه دليل على رد ما فهموه مما ألقى الشيطان من مدح آلهتهم بأنها الغرانيق العلا، ويحتمل أنهم أولوه على وجه آخر وباب التأويل واسع‏.‏

واعترض على قوله في الجواب الخامس‏:‏ إن هذا الاشتباه في حالة خاصة للتأديب لا يقتضي أن يكون صلى الله عليه وسلم على غير بصيرة فيما يوحى إليه في غير تلك الحالة بأن المعترض لم يرد أنه إذا اشتبه الأمر عليه عليه الصلاة والسلام مرة يلزم أن يكون على غير بصيرة فيما يوحى إليه في غيرها بل أراد أن اللائق بمقام النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون على بصيرة في جميع ما يوحى إليه وأنه متى اشتبه عليه عليه الصلاة والسلام في حالة من الأحوال لم تبق الكلية كلية وهو خلاف المراد‏.‏

وفي التنقيح أن الوحي إما ظاهر أو باطن أما الظاهر فثلاثة أقسام، الأول‏:‏ ما ثبت بلسان الملك فوقع في سمعه صلى الله عليه وسلم بعد علمه بالمبلغ باية قاطعة والمراد بها كما قال ابن ملك‏:‏ العلم الضروري بأن المبلغ ملك نازل بالوحي من الله تعالى والقرآن من هذا القبيل، والثاني‏:‏ ما وضح له صلى الله عليه وسلم بإشارة الملك من غير بيان بالكلام كما قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ «إن روح القدس نفث في روعي أن نفساً لن تموت حتى تستكمل رزقها» الحديث وهذا يسمى خاطر الملك، والثالث‏:‏ ما تبدى لقلبه الشريف بلا شبهة بإلهام من الله تعالى بأن أراه بنور من عنده كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏لِتَحْكُمَ بَيْنَ الناس بِمَا أَرَاكَ الله‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 105‏]‏ وكل ذلك حجة مطلقاً بخلاف الإلهام للولي فإنه لا يكون حجة على غيره، وأما الباطن فما ينال بالرأي والاجتهاد وفيه خلاف إلى آخر ما قال، وهو ظاهر في أنه صلى الله عليه وسلم على بصيرة في جميع ما يوحى إليه من القررن لأنه جعله من القسم الأول من أقسام الوحي الظاهر، ويعلم منه عدم ثبوت تكلمه صلى الله عليه وسلم بما ألقى الشيطان لأنه عند زاعمه يكون قد اعتقده عليه الصلاة والسلام قرآناً ووحياً من الله تعالى فيجب على ما سمعت أن يكون عليه الصلاة والسلام قد علم ذلك علماً ضرورياً فحيث أنه ليس كذلك في نفس الأمر يلزم انقلاب العلم جهلاً، واستثناء هذه المادة من العموم مما لا دليل عليه عند الزاعم سوى الخبر الذي زعم صحته وبنى عليه تفسير الآية بما فسرها به وذلك أول المسألة‏.‏

ويجوز أن يقال‏:‏ إنه أراد أنه إذا وقع الاشتباه مرة اقتضى أن لا يكون عليه الصلاة والسلام على بصيرة في شيء مما يوحى إليه بعد لأن احتمال التأديب على تعاطي ما ليس أكمل بالنسبة إليه صلى الله عليه وسلم قائم والعصمة من ذلك ممنوعة فقد وقع منه صلى الله عليه وسلم بعد هذه القصة التي زعمها الخصم ما عوتب عليه كقصة الإسراء المشار إليها بقوله تعالى‏:‏

‏{‏مَا كَانَ لِنَبِىٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أسرى حتى يُثْخِنَ فِي الارض‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 67‏]‏ الآية، وكقصة الإذن المشار إليها بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏عَفَا الله عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ‏}‏ ‏(‏التوبة؛ 43‏)‏ وكقصة زينب رضي الله تعالى عنها المشار إليها بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا تَقُولُ لِلَّذِى أَنعَمَ الله عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ واتق الله وَتُخْفِى فِى نِفْسِكَ مَا الله مُبْدِيهِ وَتَخْشَى الناس والله أَحَقُّ أَن تخشاه‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 37‏]‏ ودعوى أن التأديب بذلك على غير التمني مما لا تقتضيه الحكمة فلا يمكن وقوعه مما لم يقم عليه دليل، وقصارى ما تفيده الآية أن الإلقاء مشروط بالتمني أو في وقته بناءً على الخلاف في أن ‏{‏إِذَا‏}‏ للشرط أو لمجرد الظرفية وعند انتفاء ذلك الشرط أو عدم تحقق ذلك الوقت يبقى الإلقاء على العدم الأصلي إن لم يكن هناك ما يقوم مقام ذلك الشرط أو ذلك الوقت‏.‏

ولا شك أن صدور خلاف الأكمل لا سيما إذا كان كالتمني أو فوقه أو وقت صدوره مما يقوم مقام ذلك فيما يقتضيه فيلزم حينئذ أن يكون صلى الله عليه وسلم في كل وحي متوقفاً غير جازم بأن وحي لا تلبيس إلى أن يتضح له عليه الصلاة والسلام عدم صدور خلاف الأكمل بالنسبة إليه منه وفي ذلك من البشاعة ما فيه‏.‏

واعترض على قوله في الجواب أيضاً‏:‏ إن ما قاله ابن العربي قياس مع الفارق الخ بأنه غير حاسم للقيل والقال إذ لنا أن نقول‏:‏ خلاصة ما أشار إليه ابن العربي أنه قد صح بل تواتر قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «من رآني في المنام فقد رآني حقاً فإن الشيطان لا يتمثل بي» والظاهر أنه لا يتمثل به صلى الله عليه وسلم أصلاً لا للمخلصين ولا لغيرهم لعموم من ولزوم مطابقة التعليل المعلل وإذا لم يتمثل مناماً فلأن لا يتمثل يقظة من باب أولى، وعلله الشراح بلزوم اشتباه الحق بالباطل‏.‏

وقالت الصوفية في ذلك‏:‏ إن المصطفى صلى الله عليه وسلم وإن ظهر بجميع أسماء الحق تعالى وصفاته تخلقاً وتحققاً فمقتضى رسالته للخلق أن يكون الأظهر فيه حكماً وسلطنة من صفات الحق سبحانه وأسمائه جل شأنه الهداية والاسم الهادي والشيطان مظهر الاسم المضل والظاهر بصفة الضلالة فهما ضدان فلا يظهر أحدهما بصفة الآخر، والنبي صلى الله عليه وسلم خلق للهداية فلو ساغ ظهور إبليس بصورته لزال الاعتماد عليه الصلاة والسلام فلذلك عصمت صورته صلى الله عليه وسلم عن أن يظهر بها شيطان اه، ولا شك أن نسبة جبريل عليه السلام إليه صلى الله عليه وسلم وكذا إلى سائر إخوانه الأنبياء عليهم السلام نسبة النبي صلى الله عليه وسلم إلى الأمة فإذا استحال تمثل الشيطان بالنبي يقظة أو مناماً لأحد من أمته مخلصاً أو غير مخلص خوف الاشتباه وزوال الاعتماد وكمال التضاد فليقل باستحالة تمثله بجبريل عليه السلام لذلك ومن ادعى الفرق فقد كابر‏.‏

وتعقب ما ذكره في الجواب السادس بأن كون المتتبع لما يعتقده وحياً للتلبيس غير منقول صحيح إلا أن القول باعتقاد ما ليس قرآناً للتلبيس الناشيء عن إرادة التأديب بسبب تمني إيمان الجميع الغير المراد له تعالى ليس به، وكون التلبيس للتأديب كالسهو في الصلاة للتشريع لا يخفى ما فيه‏.‏

وأورد على قوله في الجواب السابع‏:‏ إنه لا إخلال بالوثوق بالقرآن عند الذين أوتوا العلم والذي آمنوا لأن وثوق كل منهما تابع لوثوق متبوعهم الصادق الأمين صلى الله عليه وسلم أنه إذا فتح باب التلبيس لا يوثق بالوثوق في شيء أصلاً لجواز أن يكون كل وثوق ناشئاً عن تلبيس كالوثوق بأن تلك الغرانيق العلا وإن شفاعتهن لترتجى قرآن فلما تطرق الاحتمال الوثوق جاز أن يتطرق الرجوع ولا يظهر فرق بينهما فلا يعول حينئذ على جزم ولا على رجوع‏.‏ وقوله فيما ذكره البيضاوي عليه الرحمة‏:‏ ليس بشيء ليس بشيء لأن منع الاحتمال عند الفرق الأربع بعد القول بجواز التلبيس مكابرة والآية التي ادعى دلالتها على انتفاء الاحتمال عند فريقين بعد النسخ والأحكام فيها أيضاً ذلك الاحتمال، والحق أنه لا يكاد يفتح باب قبول الشرائع ما لم يسد هذا الباب‏.‏

ولا يجدي نفعاً كون الحكمة المشار إليها بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ‏}‏ آبية عن بقاء التلبيس فلا أقل من أن يتوقف قبول معظم ما يجيء به النبي عليه الصلاة والسلام إلى أن يتبين كونه ليس داخلاً في باب التلبيس مع أنا نرى الصحابة رضي الله تعالى عنهم يسارعون إلى امتثال الأوامر عند إخباره صلى الله عليه وسلم إياهم بوحي الله تعالى إليه بها من من غير انتظار ما يجيء بعد ذلك فيها مما يحقق أنها ليست عن تلبيس فافهم والله تعالى الموفق‏.‏

وتوسط جمع في أمر هذه القصة فلم يثبتوها كما أثبتها الكوراني عفا الله تعالى عنه من أنه صلى الله عليه وسلم نطق بما نطق عمداً معتقداً للتلبيس أنه وحي حاملاً له على خلاف ظاهره ولم ينفوها بالكلية كما فعل أجلة إثبات وإليه أميل بل أثبتوها على وجه غير الوجه الذي أثبته الكوراني واختلفوا فيه على أوجه تعلم مما أسلفناه من نقل الأقوال في الآية وكلها عندي مما لا ينبغي أن يلتفت إليها‏.‏

وفي «شرح الجوهرة الأوسط» أن حديث تلك الغرانيق الخ ظاهره مخالف للقواطع فيجب تأويله إن صح بما هو مذكور في موضعه مما أقربه على نظر فيه أن الشيطان ترصد قراءته عليه الصلاة والسلام وكان يرتل القراءة إذ ذاك عند البيت فحين انتهى عليه الصلاة والسلام إلى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَفَرَءيْتُمُ اللات والعزى ومناة الثالثة الاخرى‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 19، 20‏]‏ وكان منه عليه الصلاة والسلام وقفة ما للترتيل أدرج ذلك في تلاوته محاكياً صوته صلى الله عليه وسلم فظن أنه من قوله عليه الصلاة والسلام وليس به انتهى، والنظر الذي أشار إليه لا يخفى على من أحاط بما قدمناه خبراً وأخذت العناية بيديه، وأقبح الأقوال التي رأيناها في هذا الباب وأظهرها فساداً أنه صلى الله عليه وسلم أدخل تلك الكلمة من تلقاء نفسه حرصاً على إيمان قومه ثم رجع عنها، ويجب على قائل ذلك التوبة ‏{‏كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذباً‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 5‏]‏، وقريب منه ما قيل إنها كانت قرآناً منزلاً في وصف الملائكة عليهم السلام فلما توهم المشركون أنه يريد عليه الصلاة والسلام مدح آلهتهم بها نسخت، وأنت تعلم أن تفسير الآية أعنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَا‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 52‏]‏ الخ لا يتوقف على ثبوت أصل لهذه القصة، وأقرب ما قيل في تفسيرها على القول بعدم الثبوت ما قدمناه، وقيل‏:‏ هو بعيد صدقوا لكن عن إيهام الإخلال بمقام النبوة ونحو ذلك، واستفت قلبك إن كنت ذا قلب سليم‏.‏ هذا وأخرج عبد بن حميد‏.‏ وابن الأنباري في المصاحف عن عمرو بن دينار قال‏:‏ كان ابن عباس رضي الله تعالى عنهما يقرأ ‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِىّ وَلاَ مُّحْدَثٍ‏}‏ فنسخ ‏{‏وَلاَ مُّحْدَثٍ‏}‏ والمحدثون صاحب يس‏.‏ ولقمان‏.‏ ومؤمن من آل فرعون‏.‏ وصاحب موسى عليه السلام‏.‏